الزجل نوع من الشعر تغلب عليه العامية، وهو نوع من الأدب لا يتقيد بقواعد اللغة، وخاصة الإعراب، وصيغ المفردات، وقد عرّف صفي الدين الحلي الزجل بقوله: "والزجل في اللغة، الصّوت يقال سحاب زجل، إذا كان فيه الرّعد، ويقال لصوت الأشجار، والحديد، والجماد أيضاً زجل فالزّجل في اللغة هو الصّوت بتعدّد مصادره، وقد يكون مُختصّاً بنوع من الغناء، وقيل في سبب تسمية هذا النّوع زجلا لأنّه لا يلتذُّ به وتفهم مقاطع أوزانه حتّى يُغنَّى به ويُصوّت".
ومعلوم أن من الزجل ما هو منظوم على أوزان البحور الشعرية العربية، وأوزان أخرى مقاربة لها.
واخترع أهل الأندلس الزجلَ ثم تداوله الناس بعدهم، وذلك لامتزاج الثقافة العربية الوافدة، بالثقافة اللاتينية الإسبانية ثقافة أهل البلاد، وقد يكون للزجل صلة قربى بالرجز، من ناحية سهولة الرجز، وقربه من الذائقة العامة، وأنه أسهل بحور الشعر، وكونه في متناول متذوقي الأدب، وغير الراسخين في الشعر وتماهيه مع كلام الناس، وتخففه من قيود بحور الشعر الثقيلة.
والأكيد أن الزجل سبقته الموشحات واستفاد الزجالون من الموشحات بل إن من المؤرخين من يعتبر الزجل مُولّْد من الموشحات، وأنه منها خرج، يقول الدكتور شوقي ضيف: "إنهما جميعاً – الموشح والزجل- فنّ واحد ذو شقين، شعبة تغلب عليها الفصاحة، وشعبة تغلب عليها العجمة".
ولكن فريقاً يقوده ابن خلدون يرون أن الزجل إنما كان تقليداً للموشح، وليس نسخة متطورة منه فقد كتب ابن خلدون : "ولمّا شاع التّوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه، وتصريع أجزائه، نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعراباً واستحدثوا فنًّا سمّوه الزّجل".
وبعض المؤرخين يميلون إلى أن العرب عرفت الزجل من قديم أيامها، لكن المؤكد أن الزجل انتشر وذاع أمره عند الأندلسيين، ويورد صفي الدين الحلي أن مخترعي الزجل هم أهل المغرب العربي، ثم انتقل إلى العراق وباقي منطقة العرب الشرقيين.
يقول صاحب كتاب (تاريخ الفكر الأندلسي): "ومن المعروف أنّ الأزجال ظهرت ونشأت قبل أبي بكر بن قزمان، ولكن لم تظهر ملامحها، ولا انسكبت معانيها، ولا اشتهرت رشاقتها؛ إلّا في زمانه".
والمصادر لم تتحفنا بأول من أنشد الزجل على وجه التحديد، وإنما تتناثر المعلومات لتوصلنا إلى أن شهرة الزجل، ومرحلة تداوله، وحفظه، بدأت من جهة المغربي الأقصى، فقد ذكر صفي الدين الحلّي: أنّ مخترع الزّجل هو يخلف بن راشد، ويذكر ابن حجّة الحموي بعض الآراء، فيقول : "قيل إنّ مخترعه ابن غزالة، واستخرجه من الموشّح، لأنّ الموشّح مطلع وأغصان، وخرجات، وكذلك الزجل، والفرق بينهما الإعراب في الموشّح، واللحن في الزجل، ويقال إن يخلف بن راشد كان هو إمام الزجل قبل بن قزمان، وكان ينظم الرقيق ومال النّاس إليه، فلما ظهر أبو بكر بن قزمان، ونظم السّهل الرقيق، مال النّاس إليه وصار هو الإمام بعده".
يمكن أن نستخلص أنّ الأزجال التي قيلت قبل ابن قزمان كانت كثيرة، لكنها لم تنتشر ولم تجد حظها من الذيوع والحفظ، أمّا أزجال ابن قزمان ومن بعده فقد شهدت تطوّراً للأزجال، أعطى هذا الأدب بعداً جديداً وصبغه بنوع من العلمية، والتوثيق، حتى عرف الناس أن للزجل بحوراً، وطرائق لابد أن تتوفر فيه.
فهل كان للزجل بحور؟ وأشكال شعرية يدور فيه؟ إن الزجالين أصلوا قواعد لفنهم هذا وهي: المركز، والخرجة، والمطلع، والبيت، ويُلاحظ أنها تقريباً نفس قواعد الموشح.
أما أغراض الزجل فقد تناول الزجالون الأغراض الني تناولتها القصيدة العربيّة، وقد نظموا في الغزل، والمدح، والهجاء، والرثاء، والزّهد، وغير ذلك من فنون الشّعر العربي القديم.
ويشاء الله أن ينتقل فن الزجل للمشرق العربي ويصبح نوعاً فنياً، أدبياً، مشرقياً، معترفاً به من المجتمع العربي بداية من القرن السادس الهجري، وبخاصة أن الظروف الاجتماعية كانت في هذه الآونة مؤهلة لاستقبال مثل هذا الفن الوافد.
ومما ساعد على تطور الزجل في المشرق العربي، أنه غدا أدباً يخاطب الجماهير، ويتغلغل في وجدانهم لأنه صبغ موضوعاته كلها بالمعالجة المباشرة في إطار النقد الاجتماعي، وبالتنبيه على الاختلالات التي تطرأ على البيئات العربية، فكان الزجل متنفساً للناس يبوحون به عن آمالهم، ويأملون عن طريقه أن يحافظوا على تقاليدهم وأعرافهم، فينسقون كلاماً لا يأخذ من الشعر العربي إلا عنصرين هما: الوزن والقافية.
ولقد احتل الزجل مساحة مريحة في الوجدان العربي، خاصة في الأزمنة المتأخرة هذه، وكان له حضور لافت في بدايات التحرر العربي، والانعتاق من ربقة الاستعمار، فاتسع نفوذ الزجل مع زجالي تلك الحقبة، وترنمت العامة والخاصة مع بيرم التونسي، ورددوا أزجاله، واشتركت العامة والخاصة في تذوق هذا النوع من الأدب وراجت بضاعته، وقامت سوقه، حتى خاف الشعراء وأرباب العربية عليها من زحف الزجل، وقال شوقي مقالته المشهورة: " إني لا أخاف على الفصحى إلا من أزجال بيرم".
ولقد امتاز الزجالون بجمال العبارة، والواقعية، وصفاء الرؤية، ومعايشة الأحداث التي تمر بالأمة، كما أن الزجالين عادة كانوا من أصحاب السخرية، وللسخرية سحر في البيان، يحببها لقلوب الناس خاصة الطبقات المطحونة التي تعاني شظف العيش، وصعوبة الحياة.
والزجل أدب من آداب الواقع يسير مع الموال، والقصص والحواديت الشعبية، ولا يتقيد بقواعد النحو، ولا صيغ الاشتقاق، ولا تعنيه بحور الخليل، إنما يكسب شرعيته، ويحتل مكانه بنبض العامة وتعاطي الناس معه، ولما كثر التحذير منه كتب أحد العلماء عنه عبارات غاية في الدقة ونهاية في الجودة، إذ كتب صفي الدين الحلي في كتابه (العاطل الحالي والمرخص الغالي ): "الزجل من الفنون التي إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعاتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهي السهل الممتنع، والأدنى المرتفع".
وسيبقى أدب الزجل، إلى جانب أدب الفصحى، طالما بقيت هذه الظاهرة اللغوية، وطالما كانت للحياة اليومية البيئية لغة، وللناس هموم، تخفف بالشعر والأدب .
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

