الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، الذي جاءنا بدين فيه سعادة الأفراد والمجتمعات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، أما بعد، أيها المسلمون:
الأخلاق في الإسلام لها أهمية كبيرة ومكانة عظيمة، فالأخلاق في الإسلام تزيل الفوارق الطبقية بين الناس، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13). فالمجتمع في الإسلام هو مجتمع الأخلاق الفاضلة، يسعى فيه الغني بماله إلى الفقير، ويساعد فيه القوي الضعيف، ويوقر فيه الصغير الكبير، ويرحم فيه الكبير الصغير، فيسود الحب والإخاء بين الناس..
وإن المتأمل للعبادات التي شُرِّعَت في الإسلام واعْتُبِرَت أركانا في الإيمان به، يرى أن هذه العبادات تلتقي جميعا وتصب عند قوله صلى الله عليه وسام: (إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) رواه أحمد.
فالصلاة المفروضة عندما أمر الله بها أبان الله الحكمة من إقامتها فقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(العنكبوت:45)، فالتطهر من سوء القول وسوء العمل، وسوء الأخلاق والمنكرات، غاية هامَّة من غايات الصلاة..
فإذا انتقلت من الصلاة إلى الزكاة، تجد أن الزكاة في الإسلام ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي غرس لمشاعر الرحمة، وتوطيد لعلاقات الألفة والمحبة بين الناس على اختلاف مستوياتهم، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(التوبة:103).
وقد وسَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلالة كلمة الصدقة، فقال: (تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ، وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ، وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ، وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ، وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ) رواه الترمذي.
وإذا انتقلت من الصلاة إلى الصيام: تجد أن الصيام في الإسلام ليس مجرد الإمساك عن المفطرات، بل هجر لجميع أنواع المعاصي وسوء الأخلاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَه) رواه البخاري، و(ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوع) رواه ابن ماجه، صام عن الطعام والشراب ولم يبتعد عما حرم الله وعن مساوئ الأخلاق..
وأما الحج يقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة:197)، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن المسلم حينما يدخل في الحج، عليه أن يعود نفسه على جوٍّ من العفاف والأدب والظهر والنقاء وحُسن الأخلاق..
هذا العرض السريع المُجمل يظهر منه متانة الأواصر والصلات التي تربط بين العبادات والأخلاق..
وإنه لمن المحزن أن نرى بعض المسلمين اليوم قد غفلوا عن هذا الأصل العظيم، وهو حسن الأخلاق وارتباطها بحسن التعبد لله، رغم أنهم من المصلين الصائمين المتصدقين، فشاعت بينهم القطيعة، وكثرت الشحناء والخصومات، وساءت المعاملات، حتى تفككت الأسر والبيوت والصلات، وتباعدت القلوب..
عباد الله: إن حُسن الأخلاق ليس أمرا هامشيا أو ثانوياً، بل هو أصل من أصول هذا الدين العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً) رواه الترمذي.
فتعالوا بنا أيها الإخوة الكرام، مع بعض صورٍ من حُسن الأخلاق والتعامل التي جاء بها الإسلام وأمرنا بها، لنرى أين نحن منها في واقعنا وحياتنا:
بر الوالدين والإحسان إليهما في حياتهما وبعد موتهما، من أعظم القُربات والطاعات، ومن أبواب الجنة، وقد جمعَ الله بين عبادتِه وبين الإحسان إلى الوالدينِ، فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(الإسراء:24:23).. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه يستأذنه في الغزو معه: (هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت قدميها) رواه النسائي، وقال عن الأب: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإنْ شئتَ فأضع ذلك الباب أو احفظه) رواه ابن ماجه. وقال: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل من يا رسول الله قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة (أي ببره لهما)) رواه مسلم.
وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر وهو يحمل أمه على ظهره، ويطوف بها حول الكعبة، ثم قال له: "هل ترى أني جزيتها؟" قال ابن عمر: "ولا بزفرة واحدة" أي: ولا بطلقة واحدة من آلام ومخاض الولادة التي تألمت بها يوم ولادتك..
وكان أبو هريرة إذا دخل البيت نادى أمه: "يا أماه، رحمك الله كما ربيتني صغيراً"، فتجيبه: "ورحمك الله كما بررتني كبيراً"، فلا يدخل حتى تدعو له..
وكم اليوم وللأسف الشديد مَنْ يعق أمه وأباه، ويُهملهما، ويرفع صوته عليهما؟ أو يتضجر من طلباتهما؟ أو يُقدم نفسه وزوجته وأصحابه على والديه ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ.
ومن حسن الأخلاق صلة الأرحام، وقد أمَرَ اللهُ تعالَى بصلة الأرحام، وبيَّنَ أنَّ وَصْلَها مُوجِبٌ للأجر العظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها) رواه البخاري، والمعنى: أنه ليس الإنسان الكامل في صِلةِ الرَّحِمِ، هو الشَّخص الَّذي يُقابِلُ الإحسانَ بالإحسانِ، ولكنِ الإنسانُ الكاملُ في صِلةِ الرَّحِمِ هو الَّذي إذا قُطِعَتْ رحِمُه وصَلَها، أي: إذا أساء إليه أقاربُه أحسَن إليهم ووصَلهم..
فتخيل أخاً يهينك، وابن عم لا يردّ سلامك، وأنت تصله، وتبتسم له، وتدعو له! ذلك هو مقام الكِرام عند الله..
والرحمة بالأولاد والرفق في التعامل معهم من صور حسن الأخلاق، وقد كان النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقبّل الحسن والحسين، ويحملهما، ويلاطفهما، ويلعب معهما، حتى قال له أعرابي: (تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَما نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَ أَمْلِكُ لكَ أنْ نَزَعَ اللَّهُ مِن قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) رواه مسلم. وكان صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة حفيدته ويصلي وهو يحملها..
ومن المؤسف أن نرى بيننا مَن يضرب أولاده لأتفه الأسباب، أو لا يبتسم في وجوههم، أو يظن أن القسوة والشدة معهم من حُسن وتربية، مع أن العكس هو الصحيح فالرحمة معهم وإشعارهم بالحب والحنان مِنْ حسن التربية.
عباد الله: ومن إن صور حسن الأخلاق والتعامل كثيرة، منها:
الإحسان إلى الجيران، فقد جاءت تَعاليمُ الإسلامِ تَدْعو إلى ما فيه الإحسان إلى الجارِ، والقِيام بحُقوقِه، والصَّبرِ على أذاه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ) رواه أحمد. وقال رجلٌ: (يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ) رواه أحمد.
فسوء الخلق والتعامل مع الجيران، من إيذاءٍ باللسان أو إيذاء بالفعل يناقض تعاليم الإسلام..
ومنها: الإحسان إلى اليتامى، وكافِلُ اليَتيمِ " المُربِّي لَه والقائِمُ بأَمرِه"، وَعَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه يكون في الجنَّة مُصاحبًا لَه لعِظَمِ أَجرِه عِندَ الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى) رواه البخاري.
فأين نحن من كفالة الأيتام اليوم؟ أين نحن من مسح دمعتهم وإدخال السرور عليهم؟ وتقديم العون لهم ولمستقبلهم..
ومن هذه الصور كذلك لحسن الأخلاق: الإحسان إلى كبار السن، فقد اهتم الإسلام وحَرَصَ على الإحسانِ ومُراعاةِ حُقوقِ الناسِ على اخْتِلافِ أعْمارِهم، خاصة كبار السن، وذلك بإعطائهم حَقَّهم منَ التَّعْظيمِ والتوقير والإِكْرامِ، ولا يليق أبدا بالشباب والصغار أن يسخروا من الكبار، بأي لون من ألوان السخرية والتنمر، أو يرفعوا أصواتهم أمامهم، وما شابه ذلك من عدم توقيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منَّا مَن لم يوَقِّرْ كبيرَنا، ويرحَمْ صغيرَنا) رواه أبو داود.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمّداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه..
عباد الله:
ما ذكرناه من بعض الصور عن حُسن الأخلاق وأثره على التعامل في حياتنا، إنْ عشناه واقعاً عمليا يصل بنا إلى مرضاة الله عز وجل، وإلى أن يحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسعد الأفراد وكذلك المجتمعات..
والتساؤل الذي يطرح نفسه: ألا تريد أن تكون محبوبا من النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا تريد أن تكون قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ّ!! الإجابة: بلى، كلنا يتمنى ذلك، الأمر يسير على مَنْ يَسَّرَ الله عليه، حافظ على عباداتك، حافظ على صلاتك، حَسِّن أخلاقك تكن حبيبا للنبي صلى الله عليه وسلم قريبا منه في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا) رواه الترمذي.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد..
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

