الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله جل وعلا قد أنعم عليكم بنعمة الإسلام، وفضلكم على كثير من الأمم تفضيلاً، وشرع لكم في أركان دينكم حج بيته العظيم الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وأوجب على عباده المسلمين حج بيته الحرام مرةً واحدةً في العمر، وجعل ذلك سبباً لطهارة القلوب ومغفرة الذنوب، ففي "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) من سرَّه أن يقدم عملاً يكون سبباً لتكفير الذنوب ونيل دار الخلود والنعيم، فليبادر إلى حج بيت الله الحرام.
وعدَّه صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال حينما سئل: (أي العمل أفضل؟ فقال: إيمانٌ بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) رواه البخاري. ومن عظيم رحمة الرب الكريم بعباده أن فرض الحج على العباد مرة واحدة، وما زاد فهو قربة وتطوع، ولم يجعل فرض الحج دائماً في كل عام، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع) رواه أحمد.
ومما يدعو للعجب -عباد الله- ما يقع فيه كثير من المسلمين من تأجيلهم الحج مع القدرة والاستطاعة، وهم في أمنٍ، قد ملكوا الزاد والراحلة، والكثير منهم مقيم قريب من بيت الله الحرام، والأسوأ من ذلك أن ترى بعضهم قد زار بلاد الشرق والغرب، وأنفق فيها أموالاً طائلةً، وأوقاتاً مديدةً، ومع ذلك لم يحج فرضه، ولم يؤد ركنه، أما يخاف أولئك الذين يؤجلون الحج ويسوفونه؟ الوعيد الشديد على ترك هذه الفريضة والتسويف فيها .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الفدية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في "سننه".
فبادروا بالحج وتعجلوا يا من لم تؤدوا فرضكم، ومن حج وابتغى التقرب بالزيادة، فليجتهد في حسن الأداء، والبشارة له بعد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والحج المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنة) رواه الترمذي.
فمن استطاع الحج، فليبادر وليتعجل إذا كان حراً بالغاً عاقلاً، والمرأة كذلك إذا وجدت محرماً زوجاً كان أو من تحرم عليه على التأبيد فليبادر كلٌ بقضاء فرضه، واحرصوا على قضاء المرأة فرضها، وليحرص من هي في ذمته على ذلك.
معاشر المؤمنين: اعلموا أنه لا يجوز لأحدٍ أن يحج عن غيره قبل أن يحج حجة الإسلام عن نفسه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً بالحج يقول: لبيك عن شبرمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ومن شبرمة؟ فقال: أخٌ لي، أو قريب، فقال صلى الله عليه وسلم: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود.
ومن عجز عن أداء فريضة الحج لكبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه، لزمه إقامة من ينوب عنه لأداء فرضه، ففي "الصحيحين": (أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأةٌ من خثعم، قالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم) متفق عليه.
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: فاحجج عنه) رواه أحمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد، معاشر المؤمنين: ينبغي لمن جمع الهمة والقصد لحج بيت الله الحرام أن يراعي آداباً وواجبات في سفره لهذه العبادة الجليلة.
وأول ما ينبغي لمن أراد الحج أن يبادر بالتوبة الصادقة النصوح، وأن يجتهد في إبراء ذمته من مظالم الخلق وحقوقهم عليه.
وتذكروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يستجاب له!) رواه مسلم.
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أنها عبادة جليلة لابد لها من زاد نقي طيب، والله لا يقبل إلا الطيب، في يوم عرفة نظر أحد الصحابة إلى الحاجِّ، قال: [إن الراكب كثير] فقال ابن عمر رضي الله عنهما: [ولكن الحاج قليل] .
معاشر المؤمنين: كما ينبغي لمن أراد الحج أن يكثر من النفقة والزاد، ليواسي المحتاجين منه، وقبل ذلك كله أن تكون النفقة -كما قلنا- من مالٍ حلال لم تكدره الشوائب من المحرمات والشبهات. وليكن المسلم طيب النفس بما أنفق؛ ليكون أقرب إلى القبول والإجابة.
كما يجب على المسلم أن يتعلم أحكام الحج، وكيفية أداء النسك، وعليه أن يسأل أهل الذكر والعلم فيما يطرأ عليه من نوازل.
وينبغي لمن عزم على الحج أن يجتهد في تحصيل الرفقة الصالحة؛ لتكون عوناً له على أداء النسك، وإن تيسر الحج في رفقة فيهم من أهل العلم والصلاح فهو الأولى؛ لأجل التواصي بالحق وحفظ آداب المناسك، والبعد عما يطرأ على المسافرين من مساوئ الأخلاق والتساهل في أمور الدين، وعلى الحاج مع رفقته أن يحرص على خدمتهم، ولين الجانب لهم، وأن يتحمل عنهم شيئاً من المشقة، وكم من رفقة تفرقت وعادت بالشحناء والعداوة من بينها جراء أنانية بعضهم والأثرة وسوء العشرة.
والمهم في هذه الفريضة، هو النية الصادقة الخالصة، وتحري أسباب القبول والحج المبرور، والتزود من فعل الخيرات، والمحافظة على الواجبات، واجتناب المعاصي والمحرمات، فالعبرة بحقيقة هذه العبادة وموقعها عند الله جل وعلا لا عند الناس.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

