المسألة السادسة والعشرون : في العام المخصوص هل هو حقيقة أو مجاز فيه  
اختلفوا في  العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازا   ؟  
فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقا ، سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل ، وسواء كان بلفظ أو بغيره ، واختاره  البيضاوي  ،  وابن الحاجب  ،  والصفي الهندي     .  
قال  ابن برهان  في الأوسط ، وهو المذهب الصحيح ، ونسبه   إلكيا الطبري  إلى المحققين ، ووجهه أنه موضوع للمجموع ، فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له ، وذلك هو المجاز .  
وأيضا لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركا فيكون حقيقة في معنيين مختلفين ، والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد .  
وأيضا قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك ، كما تقدم فيكون مقدما عليه .  
 [ ص: 394 ] وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقا ، قال الشيخ   أبو حامد الإسفراييني     : وهذا مذهب   الشافعي  وأصحابه ، وهو قول  مالك  وجماعة من أصحاب  أبي حنيفة  ، ونقله  ابن برهان  عن أكثر الشافعية ، وقال   إمام الحرمين     : هو مذهب جماعة الفقهاء ، وحكاه   ابن الحاجب  عن الحنابلة .  
قالوا : ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولا حقيقة باتفاق ، فالتناول باق على ما كان عليه ، ولا يضره طرد عدم تناول الغير ، وأجيب : بأنه كان يتناوله مع غيره ، والآن يتناوله وحده ، وهما متغايران ، وقالوا أيضا : إنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة .  
وأجيب : بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة إذ السابق مع عدمها هو العموم ، وهذا دليل المجاز .  
قال  العضد     : وقد يقال : إرادة الباقي معلومة دون القرينة إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج . انتهى .  
ويجاب عنه بأن إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة .  
وذهب جماعة إلى أنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة ، وإن خص بمنفصل فمجاز ، حكاه   الشيخ أبو حامد  ،  وابن برهان  ،  وعبد الوهاب  عن  الكرخي  ، وغيره من الحنفية . قال  عبد الوهاب     : هو قول أكثرهم ، قال  ابن برهان     : وإليه مال  القاضي  ، ونقله عنه الشيخ   أبو إسحاق الشيرازي  في اللمع .  
واحتجوا : بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد .  
ويجاب : بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كانت سببا لفهم إرادة الباقي من لفظ العموم ، وهو معنى المجاز ، ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة ، متصلة أو منفصلة .  
وذهب  عبد الجبار  إلى عكس هذا القول ، حكى ذلك عنه  ابن برهان  في الأوسط ، ولا وجه له .  
وحكى   الآمدي  أنه إن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي ، سواء كان ذلك المخصص اللفظي متصلا أو منفصلا ، وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا ،      [ ص: 395 ] ولا وجه لهذا أيضا ; لأن القرينة قد تكون لفظية ، وقد تكون غير لفظية .  
وحكى  أبو الحسين  في المعتمد عن  عبد الجبار  أنه إن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز ، ولا وجه له أيضا ، وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع .  
وقال  أبو الحسين البصري     : إن كان المخصص مستقلا فهو مجاز ، سواء كان عقليا أو لفظيا ، وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج ، وإن لم يكن مستقلا فهو حقيقة ، كالاستثناء والشرط والصفة .  
واختار هذا   فخر الدين الرازي  ، فإنه قال في المحصول : والمختار قول  أبي الحسين  ، وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازا ، وإلا فلا ، وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان : عقلية ولفظية ، أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات ، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني ، وفي هذين القسمين يكون العام مجازا ، والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق ، فإذا استعمل هو بعينه في البعض ، فقد صار اللفظ مستعملا في غير مسماه لقرينة مخصصة ، وذلك هو المجاز .  
فإن قلت : لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ، ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص .  
قلت : فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا ; لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ، ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه ، والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا ؟ انتهى .  
ويجاب عنه : بمنع كونه يفضي إلى ذلك ، ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به ، بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال ، مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقا فضلا عن سد باب مجرد المجاز .  
وحكى   الآمدي  عن  أبي بكر الرازي  أنه إن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز ، واختاره  الباجي  من المالكية ، وهذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا ; لأنه لا بد من أن يبقى أقل الجمع ، وهو محل الخلاف ، ولهذا قال   القاضي أبو بكر الباقلاني  ،   والغزالي     : إن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع ، فأما إذا بقي      [ ص: 396 ] واحد أو اثنان ، كما لو قال : لو تكلم الناس ، ثم قال : أردت زيدا خاصة ، فإنه يصير مجازا بلا خلاف ; لأنه اسم جمع ، والواحد والاثنان ليسا بجمع . انتهى .  
وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهبا مستقلا ما اختاره   إمام الحرمين  من أنه يكون حقيقة فيما بقي ، ومجازا فيما أخرج ; لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط ، هل يكون العام فيه حقيقة أم لا ؟  
				
						
						
