وإذا عرفت هذا ،  فالمجتهد      : هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ، ولا بد أن يكون بالغا عاقلا ، قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها ، وإنما يتمكن من ذلك بشروط :  
( الأول ) :  أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة   ، فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا ، ولا يجوز له الاجتهاد ، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة ، بل بما يتعلق منهما بالأحكام .  
قال   الغزالي ،  وابن العربي     : والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ،      [ ص: 717 ] ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر ; للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك ، بل من له فهم صحيح ، وتدبر كامل ، يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال .  
قيل : ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات ، لا بطريق التضمن والالتزام .  
وقد حكى  الماوردي  عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا   مقاتل بن سليمان  أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية .  
قال  الأستاذ أبو منصور     : يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ، ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ .  
واختلفوا في  القدر الذي يكفي المجتهد من السنة   ، فقيل : خمسمائة حديث وهذا من أعجب ما يقال ، فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة .  
وقال  ابن العربي  في المحصول : هي ثلاثة آلاف .  
وقال  أبو علي الضرير :  قلت   لأحمد بن حنبل :  كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي ، يكفيه مائة ألف ؟ قال : لا . قلت : ( مائتا ألف ؟ قال : لا قلت : ) ثلاثمائة ألف ؟ قال : لا . قلت : أربعمائة ألف ؟ قال : لا . قلت :      [ ص: 718 ] خمسمائة ألف ؟ قال : أرجو     .  
قال بعض أصحابه : هذا محمول على الاحتياط ، والتغليظ في الفتيا ، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء ، فأما ما لا بد منه ، فقد قال  أحمد  رحمه الله : الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبغي أن تكون ألفا ومائتين .  
قال  أبو بكر الرازي :  لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب ، إذ لا يمكن الإحاطة به ، ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى .  
وقال   الغزالي  ، وجماعة من الأصوليين : يكفيه أن يكون عنده أصل يجمع أحاديث الأحكام ، كسنن  أبي داود ،  ومعرفة السنن  للبيهقي  ، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام ، ويكتفى فيه بمواقع كل باب ، فيراجعه وقت الحاجة ، وتبعه على ذلك  الرافعي  ، ونازعه  النووي  وقال : لا يصح التمثيل بسنن  أبي داود  ، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ، ولا معظمها وكم في صحيح   البخاري  ومسلم  من حديث حكمي ليس في سنن  أبي داود  ، وكذا قال  ابن دقيق العيد  في شرح العنوان : التمثيل بسنن  أبي داود  ليس بجيد عندنا لوجهين :  
( الأول ) : أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها .  
( الثاني ) : أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى .  
ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط ، وبعضه من قبيل التفريط ، والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن ، كالأمهات الست وما يلتحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد ، والمستخرجات ، والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له ، مستحضرة في ذهنه ، بل أن يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها ، بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك ، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها ، والحسن ، والضعيف ، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة ،      [ ص: 719 ] وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال ، مع كونه ممن له معرفة تامة ، بما يوجب الجرح ، وما لا يوجبه من الأسباب ، وما هو مقبول منها ، وما هو مردود ، وما هو قادح من العلل ، وما هو غير قادح .  
( الشرط الثاني ) :  أن يكون عارفا بمسائل الإجماع   ، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي ، وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل .  
( الشرط الثالث ) :  أن يكون عالما بلسان العرب   ، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ، ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك ، وقد قربوها أحسن تقريب ، وهذبوها أبلغ تهذيب ، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه ، ولا يبعد الاطلاع عليه ، وإنما يتمكن من معرفة معانيها ، وخواص تراكيبها ، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو ، والصرف ، والمعاني ، والبيان ، حتى ثبت له في كل فن من هذه الفنون ملكة ، يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه ، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا ، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا .  
ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة ( مختصر من ) مختصراتها ، أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها ; فقد أبعد ، بل الاستكثار من الممارسة لها ، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث ، وبصرا في الاستخراج ، وبصيرة في حصول مطلوبه .  
والحاصل : " أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم ، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة ، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن .  
قال   الإمام الشافعي     : يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه .  
قال  الماوردي     : ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره .  
 [ ص: 720 ]    ( الشرط الرابع ) :  أن يكون عالما بعلم أصول الفقه   ، لاشتماله على ( ما تمس ) الحاجة إليه ، وعليه أن يطول الباع فيه ، ويطلع على مختصراته ، ومطولاته ، بما تبلغ إليه طاقته ، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد ، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه ، وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها ، فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها ، بأيسر عمل ، وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد ، وخبط فيه وخلط .  
قال   الفخر الرازي  في المحصول : وما أحسن ما قال : إن  أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه   انتهى . قال   الغزالي :  إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون : الحديث ، واللغة ، وأصول الفقه .  
( الشرط الخامس ) :  أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ   ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك ، مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ .  
وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي ، فشرطه جماعة منهم   الغزالي ،   والفخر الرازي ،  ولم يشترط الآخرون ، وهو الحق ; لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية ، لا على الأدلة العقلية ، ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد .  
واختلفوا أيضا في اشتراط  علم أصول الدين   ، فمنهم من اشترط ذلك ، وإليه ذهب  المعتزلة   ، ومنهم من لم يشترط ذلك ، وإليه ذهب الجمهور .  
ومنهم من فصل ، فقال : يشترط العلم بالضروريات ، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق ( بالرسول وما جاء به ) .  
ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب   الآمدي     .  
واختلفوا أيضا في  اشتراط علم الفروع   ، فذهب جماعة منهم  الأستاذ أبو إسحاق  ،  والأستاذ أبو منصور  إلى اشتراطه ، واختاره   الغزالي  وقال : إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان .  
 [ ص: 721 ] وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه ، قالوا : وإلا لزم الدور ، وكيف يحتاج إليها ، وهو الذي يولدها ، بعد حيازته لمنصب الاجتهاد .  
وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد  علم الجرح والتعديل   ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة ، فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا .  
وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد  معرفة القياس بشروطه وأركانه   ، قالوا : لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ، ومنه يتشعب الفقه ، وهو كذلك ، ولكنه مندرج تحت علم " أصول الفقه " فإنه باب من أبوابه ، وشعبة من شعبه .  
[ المجتهد فيه ]  
وإذا عرفت معنى الاجتهاد ، والمجتهد ، فاعلم أن  المجتهد فيه      : هو الحكم الشرعي العلمي .  
قال في المحصول : المجتهد فيه : هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع ، واحترزنا      [ ص: 722 ] بالشرعي عن العقليات ، ومسائل الكلام .  
وبقولنا : ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس ، والزكاة ، وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع .  
قال أبو الحسين البصري : المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون ، من الأحكام الشرعية ، وهذا ضعيف ; لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية ، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					