مراتب ألفاظ الرواية من غير الصحابي  
وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي فلها مراتب بعضها أقوى من بعض :  
المرتبة الأولى : أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ   ، وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل ; لأنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه ، وهم يسمعون ، وهي أبعد من الخطأ والسهو .  
وقال  أبو حنيفة     : إن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ ; لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين ، وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده ، وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين .  
قال  الماوردي   والروياني     : ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد ، أو اتفاقا ، أو مذاكرة ، ويجوز أن يكون الشيخ أعمى يملي من حفظه ، ويجوز أن يكون أصم ، ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ، ولا يجوز أن يكون أصم ، وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقا به ذاكرا لوقت سماعه له .  
وروي عن  أبي حنيفة  رحمه الله أنها لا تجوز الرواية من الكتاب ، ولا وجه      [ ص: 205 ] لذلك ، فإنه يستلزم بطلان فائدة الكتاب ، ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ ; لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه .  
وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول : حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا إذا كان الشيخ قاصدا لإسماعه وحده ، أو مع جماعة ، فإن لم يقصد ذلك ، فيقول سمعته يحدث .  
المرتبة الثانية : القراءة   
وهي أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع ، وأكثر المحدثين يسمون هذا عرضا ، وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ ، كأنه يعرض عليه ما يقرؤه ، ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ، ورواية معمول بها ، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه .  
قال  الجويني  وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالما بما يقرؤه التلميذ عليه ، ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه ، وإلا لم تصح الرواية عنه . قال : وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا ولا يأمن تدليسا وإلباسا وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه ؟  
قال   أبو نصر القشيري     : وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي ، فإن صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل ، وإن لم يعرف معناه .  
وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه ، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث ، وكيف لا ، وفي الحديث  رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه     .  
ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ، ويسند بذلك باب التحديث .  
قال : وقد صرح الإمام بجواز  الإجازة   والتعويل عليها ، وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز ، وقد وافق  الجويني  على ذلك الشرط الذي ذكره  الكيا الطبري  والمازري     .  
ويقول التلميذ في هذه الطريقة قرأت على فلان ، أو أخبرني ، أو حدثني قراءة عليه ، وأما إطلاق أخبرني ، أو حدثني بدون تقييد بقوله قراءة عليه ، فمنع من ذلك جماعة      [ ص: 207 ] منهم   ابن المبارك  ويحيى بن يحيى   وأحمد بن حنبل   والنسائي     ; لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه .  
وقال   الزهري  ومالك   وسفيان الثوري   وابن عيينة   ويحيى بن سعيد القطان   والبخاري     : إنه يجوز ; لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ، ونقله  الصيرفي  والماوردي   والروياني  عن   الشافعي     .  
وروي عن   الشافعي  وأصحابه   ومسلم بن الحجاج  صاحب الصحيح : أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ، ولا يجوز أن يقول حدثنا .  
قال  الربيع  ، قال   الشافعي     : إذا قرأت على العالم ، فقل : أخبرنا ، وإذا قرأ عليك ، فقل : حدثنا .  
قال  ابن دقيق العيد     : وهو باصطلاح المحدثين في الآخر ، والاحتجاج له ليس بأمر لغوي ، وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين .  
قال   ابن فورك     : بين حدثني وأخبرني فرق ; لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه ، وحدثني لا يحتمل غير السماع .  
المرتبة الثالثة  
الكتابة المقترنة بالإجازة   نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا ، وقد أجزت لك أن ترويه عني ، وكان خط الشيخ معروفا ، فإن تجردت الكتابة عن الإجازة ، فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين ، حتى قال  ابن السمعاني  إنها أقوى من مجرد الإجازة ، وقال  الكيا الطبري  إنها بمنزلة السماع ، قال : لأن الكتابة أحد اللسانين ، وقد      [ ص: 208 ] كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ بالكتابة للغائبين ، كما يبلغ بالخطاب للحاضرين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى .  
قال  البيهقي  في المدخل : الآثار في هذا كثير من التابعين فمن بعدهم ، وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم ، وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عماله بالأحكام شاهدة لقوله ، قال : إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه أو قرئ عليه وأقر به أولى بالقبول مما كتب به إليه ; لما يخاف على الكتاب من التغيير .  
وكيفية الرواية   أن يقول كتب إلي أو أخبرني كتابة ، فإن كان الكاتب قد ذكر الأخبار في كتابه ، فلا بأس بقوله أخبرنا ، وجوز  الرازي  أن يقول التلميذ أخبرني مجردا عن قوله كتابة .  
قال  ابن دقيق العيد     : وأما تقييده بقوله كتابة ، فينبغي أن يكون هذا أدبا ; لأن القول إذا كان مطابقا جاز إطلاقه ، ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين ، وجوز   الليث بن سعد  إطلاق حدثنا ، وأخبرنا في الرواية بالكتابة .  
قال   القاضي عياض     : إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة ، ووجوب العمل بها ، وإنها داخلة في المسند ، وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها ، ومنع قوم من الرواية بها منهم  المازري   والروياني  ، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ   الدارقطني   والآمدي     .  
المرتبة الرابعة : المناولة   
وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة وهي على وجهين :  
 [ ص: 209 ] الوجه الأول : أن  تقترن بالإجازة   ، وذلك بأن يدفع أصله أو فرعا مقابلا عليه ويقول : هذا سماعي فاروه عني ، أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه ، فيعرضه على الشيخ ، ثم يعيده إليه ، ويقول هو من مروياتي ، فاروه عني .  
قال   القاضي عياض  في الإلماع : إنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع .  
قال  المازري     : لا شك في وجوب العمل بذلك ، ولا معنى للخلاف فيه .  
قال  الصيرفي     : ولا نقول حدثنا ، ولا أخبرنا في كل حديث .  
وروي عن  أحمد  وإسحاق  ومالك     : أن هذه  المناولة المقترنة بالإجازة   كالسماع ، وحكاه  الخطيب  عن   ابن خزيمة     .  
الوجه الثاني :  أن لا تقترن بالإجازة ، بل يناوله الكتاب   ، ويقتصر على قوله : هذا سماعي من فلان ، ولا يقول اروه عني ، فقال   ابن الصلاح  والنووي     : لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء ، وحكى  الخطيب  عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها ، وبه قال  ابن الصباغ  والرازي     .  
قال   البخاري     : واحتج بعض  أهل  الحجاز    للمناولة بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث كتب لأمير السرية كتابا ، وقال  لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا  ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس ، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشار  البيهقي  إلى أنه لا حجة في ذلك .  
قال  العبدري     : لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول : أجزت لك أن تروي عني ، وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة .  
 [ ص: 210 ] المرتبة الخامسة : الإجازة   
وهو أن يقول : أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه ، أو هذا الكتاب ، أو هذه الكتب ، فذهب الجمهور إلى جواز  الرواية   بها ، ومنع من ذلك جماعة .  
قال  شعبة     : لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة .  
وقال   أبو زرعة الرازي     : لو صحت الإجازة لذهب العلم . ومن المانعين   إبراهيم الحربي   وأبو الشيخ الأصفهاني  والقاضي حسين  والماوردي   والروياني  من الشافعية  وأبو طاهر الدباس  من الحنفية .  
وقال : من قال لغيره : أجزت لك أن تروي عني ، فكأنه قال أجزت لك أن تكذب علي .  
ويجاب عما قال هؤلاء المانعون : بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة ، وأيضا المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية ، وقد حصلت بالإجازة ، ولا تستلزم ذهاب العلم ، غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية ، وهي طريقة السماع ، والكل طرق للرواية ، والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى .  
وأما قول  الدباس     : إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه : أجزت لك أن تكذب علي ، فهذا خلف من القول ، وباطل من الكلام ، فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر ، وهي هنا حاصلة ، وإذا تحقق سماع الشيخ ، وتحقق إذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ، ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية جملة      [ ص: 211 ] وبين الطريق المقتضية للرواية تفصيلا في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق ، وإن كان بعضها أقوى من بعض .  
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله   ابن حزم  في كتاب الإحكام : إنه بدعة غير جائزة .  
واختلفوا  هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة : حدثني ، أو أخبرني ، أو حدثنا ، أو أخبرنا ، من غير تقييد ، بكون ذلك إجازة ؟   فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور ، وهو أن يقول : حدثني إجازة ، أو أخبرني إجازة . قال  ابن دقيق العيد     : وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا . قيل : يجوز أن يقول : أنبأني بالاتفاق ، وهذه الطريقة على أنواع :  
النوع الأول : أن يجيز في معين لمعين   ، نحو أن يقول : أجزت لك أو لكم رواية الكتاب الفلاني عني ، وهذه الطريقة أعلى أنواع الإجازة .  
النوع الثاني : أن يجيز لمعين في غير معين   ، نحو أن يقول : أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي ، فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم  الجويني     .  
النوع الثالث : أن يجيز غير معين لغير معين   ، نحو أن يقول : أجزت للمسلمين ، أو لمن أدرك حياتي جميع مروياتي . وقد جوز هذا جماعة منهم  الخطيب  وأبو الخطيب   وأبو الطيب الطبري  ، ومنعه آخرون .  
هذا فيما إذا كان المجاز له أهلا للرواية ، وأما إذا لم يكن أهلا لها كالصبي ، فجوز ذلك قوم ، ومنعه آخرون .  
واحتج  الخطيب  للجواز بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه ، والإباحة تصح للمكلف وغيره ، ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلا لها .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					