[ ص: 78 ] المسألة الأولى  
مذهب   الشافعي   وأحمد بن حنبل  وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال  [1] غير مقبول الرواية ، بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته ، وكشف سريرته ، أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له .  
وقال  أبو حنيفة  وأتباعه : يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا ، وقد احتج النافون بحجج :  
الأولى : أن الدليل ينفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى : (  إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا      ) غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى لا وجود له في محل النزاع ، وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله ، فوجب أن لا يقبل .  
ولقائل أن يقول : الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ، ومن ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهرا ، لا نسلم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم الآية .  
واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقا بدليل العدل المتفق على عدالته .  
الحجة الثانية : أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية ؛ دفعا لاحتمال مفسدة الكذب ، كالشهادة في العقوبات .  
ولقائل أن يقول : وإن كان احتمال الكذب قائما ( ظاهرا ) ، غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهرا أظهر من احتمال الكذب .  
ومع ذلك ، فاحتمال القبول يكون أولى من احتمال الرد ، ولا يمكن القياس على الشهادة ؛ لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم منه في باب الرواية .  
ولهذا كان العدد والحرية مشترطا في الشهادة دون الرواية ، ومتعبدا فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية ، حتى إنه لو قال " أعلم " بدل قوله " أشهد " لم يكن مقبولا .  
 [ ص: 79 ] وعلى هذا ، فلا يلزم من اشتراط ظهور العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية .  
الحجة الثالثة : قالوا : أجمعنا على أن العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى ، فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار ، فلا تقبل أخباره دفعا للمفسدة اللازمة من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه لا يجب على المقلد اتباعه إجماعا .  
ولقائل أن يقول :  المجمع على اشتراطه في الرواية العدالة   بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهرا ، أو بمعنى آخر ، والأول مسلم ، غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه ، والثاني ممنوع .  
كيف وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة ، وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع ، فالاعتبار بالمفتي غير ممكن ؛ وذلك لأن بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة .  
ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعا من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وعند ذلك فاحتمال عدم صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة ، فلا يلزم من عدم قبول قول المفتي مع الجهل بحاله القبول بعدم قول الراوي مع الجهل بحاله .  
الحجة الرابعة : أن  عدم الفسق شرط في قبول الرواية   ، فاعتبر فيه الخبرة الباطنية مبالغة في دفع الضرر ، كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة .
ولقائل أن يقول ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة الثانية ، وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم .  
الحجة الخامسة : قالوا : رد  عمر  رواية   فاطمة بنت قيس  لما كانت مجهولة الحال ،  وعلي  عليه السلام رد قول  الأشجعي  في المفوضة ، واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ، ولم ينكره منكر فكان إجماعا .  
ولقائل أن يقول : أما رد  عمر  لخبر  فاطمة  إنما كان لأنه لم يظهر له صدقها  [2]    .  
 [ ص: 80 ] ولهذا قال : كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت .  
وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهرا ، فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه .  
وأما رد  علي  عليه السلام لخبر  الأشجعي  فإنما كان أيضا لعدم ظهور صدقه عنده ؛ ولهذا وصفه بكونه بوالا على عقبيه ؛ أي : غير محترز في أمور دينه .  
ويجب أن يكون كذلك ، وإلا كان مخالفا لقوله صلى الله عليه وسلم : "  نحن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر     " .  
والمعتمد في المسألة أنا نقول : القول بوجوب قبول  رواية مجهول الحال   يستدعي دليلا ، والأصل عدم ذلك الدليل ، والمسألة اجتهادية ظنية ، فكان ذلك كافيا فيها  [3]    .  
فإن قيل : بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول .  
أما النص فمن جهة الكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله تعالى : (  إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا      ) أمر بالتثبت مشروطا بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت فيه .  
وأما السنة فمن وجهين ؛ الأول : قوله عليه السلام : "  إنما أحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر     "  [4] وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق ، فكان داخلا تحت عموم الخبر .  
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الأعرابي ، وقال : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) وشهد برؤية الهلال عنده ، قبل شهادته ، وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه      [ ص: 81 ] ولم يعلم منه ما يوجب فسقا ، فالرواية أولى  [5]    .  
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق ظاهرا .  
وأما المعقول فمن وجهين ؛ الأول : أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق ، فكان خبره مقبولا كإخباره بكون اللحم ( لحم ) مذكى ، وكون الماء طاهرا أو نجسا ، وكون الجارية المبيعة رقيقة ، وكونه متطهرا عن الحدثين ؛ حتى يصح الاقتداء به ، ونحوه .  
والثاني : أنه لو أسلم كافر ، وروى عقيب إسلامه خبرا من غير مهلة ، فمع ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه ، يمتنع رد روايته ، وإذا قبلت روايته حال إسلامه ، فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده .  
والجواب عن الآية أن العمل بموجبها نفيا وإثباتا متوقف على معرفة كونه فاسقا أو ليس فاسقا ، لا على عدم علمنا بفسقه ، وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله .  
وعن الخبر الأول ، من ثلاثة أوجه :  
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أضاف الحكم بالظاهر إلى نفسه ، ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه ، لا بنفس النص المذكور ، والقياس عليه ممتنع ؛ لأن ما للنبي صلى الله عليه وسلم ، من الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية ، غير متحقق في حق غيره  [6]    .  
الثاني : أنه رتب الحكم على الظاهر ، وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به ، فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة .  
 [ ص: 82 ] الثالث ، المعارضة بقوله تعالى : (  إن الظن لا يغني من الحق شيئا      ) وليس العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر ، بل العمل بالآية أولى ؛ لأنها متواترة وما ذكروه آحاد .  
وعن الخبر الثاني : لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام .  
وعن الإجماع ، لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم .  
ولهذا ، ردوا رواية من جهلوه كرد  عمر  شهادة   فاطمة بنت قيس  ،  [7] ورد علي شهادة الأعرابي .  
وعن الوجه الأول من المعقول بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع .  
وذلك من وجهين ؛ الأول : أن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة وأشرف منصبا من الإخبار فيما ذكروه من الصور ، فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما .  
الثاني : أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور الفسق ، ولا كذلك فيما نحن فيه .  
وعن الوجه الثاني : من المعقول بمنع قبول روايته دون الخبرة بحاله ، لاحتمال أن يكون كذوبا ، وهو باق على طبعه .  
وإن قلنا : روايته في مبدأ إسلامه ، فلا يلزم ذلك في حالة دوامه ، لما بين ابتداء الإسلام ودوامه من رقة القلب ، وشدة الأخذ بموجباته ، والحرص على امتثال مأموراته ، واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في أمر محبوب والتزمه ، فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					