وكذلك أيضا الذي قد بعد عنه ماله بفعله يكون فيه كمن بعد عنه بغير فعله ، ويكون في الوجهين جميعا في حكم العاجز عن الوصول إلى ماله ، ولا ينظر في ذلك إلى السبب الذي به صار كذلك ، غير أنا قد وجدنا عن عثمان -  رضي الله عنه - في ذلك ما يدل على ما ذهب إليه  أبو حنيفة ،   وأبو يوسف ،  ومحمد  وبه : 
 541  - حدثنا  إبراهيم بن أبي داود ،  قال : حدثنا  عبد الله بن صالح ،  قال : حدثني  الليث بن سعد ،  قال : حدثني عقيل ،  عن  ابن شهاب ،  قال : حدثني  السائب بن يزيد ،  أن  عثمان بن عفان ،  كان يقول : " إن الصدقة تجب في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه ، والذي على ملئ تدعه حياء ومصانعة   " .  [ ص: 272 ] فهذا عثمان -  رضي الله عنه - لم يوجب في الدين زكاة إلا فيما يقدر على تقاضيه . فدل ذلك على أن مذهبه كان فيما لا يقدر على تقاضيه على ما ذهب إليه  أبو حنيفة ،   وأبو يوسف ،  ومحمد ،  وبه فهم . وإن كانوا قد تركوا القياس فيما ذكرنا فقد تعلقوا بقول إمام من الأئمة الراشدين المهديين رضوان الله عليهم أجمعين . 
وقد روي عن  ابن عمر  ما يدل على مذهب  أبي حنيفة ،   وأبي يوسف ،  ومحمد  أيضا . 
 542  - حدثنا  يحيى بن عثمان ،  قال : حدثنا  نعيم بن حماد ،  قال : حدثنا  ابن المبارك ،  قال : أخبرنا  أسامة بن زيد ،  عن  نافع ،  عن  ابن عمر -  رضي الله عنه - ما ، قال : " أيما دين كان لك على أحد ترجو قضاءه فعليك فيه الزكاة كل عام "   . 
فهذا  ابن عمر  أيضا لم يوجب الزكاة عليه إلا إذا كان يقدر على تقاضي ماله . فدل ذلك على أن مذهبه كان ، فيما لا يقدر على تقاضيه ، خلاف ذلك ، غير أن  أبا حنيفة ،  وأبا يوسف  رحمهما الله كانا يقولان في الغريم الفقير إذا أيسر بعد ذلك ، فقضى غريمه ما كان له عليه ، وقد كان في حال فقره مقرا بما له عليه أنه يزكيه لما مضى وخالفهما في ذلك  محمد بن الحسن ،  فقال : لا يزكيه لما مضى . 
وهذا القول أولى بأصولهم وأشبه بأقوالهم من القول الآخر ، لأن الذي عليه الدين إذا كان فقيرا ، فالذي له عليه الدين ممنوع من ماله عليه ، فهو كالممنوع بالجحود ، ولا فرق بين عدمه الوصول إلى ماله باعتبار من هو عليه ، وبين الوصول إليه بجحود من هو عليه إياه . 
وقد اختلف أهل العلم في الدين الذي يحول عليه أحوال وهو على المطلوب ، ثم يقضيه الذي هو له ، ولم يكن الذي هو عليه جاحدا له ، ولا فقيرا . 
فقال قوم : يزكيه لكل حول مر عليه غير أنه يرفع من الحول الثاني زكاة الحول الأول ، ثم يزكي الثاني فيفعل ذلك كذلك في كل حول حتى يرجع ماله إلى أقل مما تجب عليه فيه الزكاة وممن قال ذلك منهم :  أبو حنيفة ،   وأبو يوسف ،  ومحمد ،  فيما حدثنا محمد بن العباس ،  عن علي بن سعد ،  عن محمد ،  عن  أبي حنيفة ،   وأبي يوسف   . 
قال محمد  رحمه الله : وهو قولنا . 
وقال بعضهم : يزكيه بكماله لكل حول مر عليه من تلك الأحوال ، وإن أتى ذلك على المال كله وممن قال ذلك منهم :  زفر .  حدثنا بذلك من قوله محمد بن العباس ،  عن يحيى بن سليمان الجعفي ،  عن  الحسن بن زياد اللؤلؤي ،  عن  زفر .  
وكذلك قال  أبو حنيفة ،   وأبو يوسف ،  ومحمد  في رجل كان في يده مال لنفسه تجب فيه  [ ص: 273 ] الزكاة ، فتركه سنين لا يزكيه ،  إنه يزكي عن أول سنة جميع المال ، وعن الثانية جميع المال ، إلا ما خرج للزكاة في العام الأول ، ثم كذلك حتى يبقى من المال أقل مما تجب فيه الزكاة ، ولا يكون عليه غير ذلك . 
وكان  زفر ،  يقول : يزكيه لكل عام زكاة كاملة ، وإن أتى ذلك على جميع المال ، ولا يمنع وجوب الزكاة في المال عنده في الحول الأول وجوب زكاة جميعه في الحول الثاني ، وفرق  زفر  بين وجوب الزكاة في المال وبين وجوب الدين سواه على صاحب المال ، فلم يجعل الزكاة دينا يمنع وجوب الزكاة في المستأنف ، وسوى  أبو حنيفة ،  وأبو محمد  بينهما . 
سمعت  أبا بكرة ،  يقول : سمعت هلالا ،  يقول : سألت  أبا يوسف  رحمه الله عن رجل له مائتا درهم ، حال عليها حولان ، فقال : عليه زكاة حول واحد خمسة دراهم ، ولا شيء عليه فيها للحول الثاني . 
قال : فقلت له : فإن  زفر  كان يقول : عليه أن يزكيها للحولين جميعا ، لكل واحد منهما خمسة دراهم ، فما حجتك عليه في ذلك ؟ قال : وما حجة على من يقول في مائتي درهم أربعمائة درهم ؟ 
قال أحمد :  ومعنى ذلك عندنا أنه إذا جعل الزكاة واجبة في كل حول جاز أن تكثر الأحوال حتى تكون جملة زكاتها تجاوز مقدار المال الذي من أصله وجبت الزكاة . 
وكان الذي احتج به  أبو يوسف  من هذا على  زفر  غير لازم له ، لأنه  وزفر  جميعا لا يختلفان في حقوق الله - عز وجل - من كفارات الأيمان والنذور وجزاء الصيد والدماء الواجبات بأنساك الحج والعمرة وما أشبه ذلك ، لأنه لا يمنع وجوب الزكاة في المال ، وأنه ليس كالدين الذي من حقوق الآدميين ، وكانت الزكاة التي من حقوق الله - عز وجل - بالدين الذي من حقوقه أشبه منها بالديون التي من حقوق الآدميين . 
ألا ترى أن من مات وعليه دين لآدمي أنه لا يبطل بموته ، وأنه يؤخذ من تركته ، وأنه عند  زفر ،   وأبي يوسف ،  تسقط عنه الحقوق التي لله - عز وجل - بموته من الزكوات والكفارات وسائر ما ذكرنا معها ، وكان حكم الزكاة بالكفارات وما أشبهها بعد الموت أشبه منها بديون الآدميين ، فكان القياس على ذلك أن يكون بها في الحياة أشبه منها بديون الآدميين ، وأن يكون كل ما يسقط بالموت ولا يمنع الميراث ، لا يمنع وجوب الزكاة في المال في  [ ص: 274 ] الحياة ، وكل ما لا يسقط بعد الموت يؤخذ من الزكاة ، يمنع في الحياة وجوب الزكاة في المال . هذه حجة تلزم  أبا حنيفة ،  وأبا يوسف ،  ومحمد  ألزم على أصولهم وعلى أصله . 
فأما من يخالفهم جميعا في ذلك ويجعل الزكاة بعد الموت دينا يمنع الميراث من التركات ، فإن هذه حجة لا تلزمه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					