وقد اختلف أهل العلم في خطب الحج ،  فكان بعضهم يقول : هي ثلاث خطب ويختلفون في أوقاتها ، فيقول بعضهم : إحداهن قبل التروية بيوم بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها ، وأخرى يوم عرفة بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر والعصر خطبتين يجلس بينهما جلسة كما يصنع في الجمعة ، وخطبة أخرى بعد النحر بيوم بعد الظهر خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال ذلك منهم  أبو حنيفة  ،  وأبو يوسف  ، والحسن بن زياد  فيما ذكر لنا محمد بن العباس  ، عن يحيى بن سليمان الجعفي  ، عن  الحسن بن زياد  ، عن  أبي يوسف  قال الحسن   : وبه نأخذ وقد روينا هذا القول أيضا عن  أبي حنيفة  ، وعن  محمد بن الحسن  من غير هذا الوجه ، وقد روي مثل ذلك أيضا عن  مالك بن أنس   . 
حدثنا عبيد بن محمد البزار ،  قال حدثنا  أحمد بن صالح  ، قال : قرأت على ابن قانع ،  قال قال  مالك   : يخطب إمام الحج ثلاث خطب : خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة يوم عرفة قبل الظهر ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر . 
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما : 
 1367  - قد حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي ،  قال حدثنا إبراهيم بن الجراح ،  قال حدثنا  يعقوب بن إبراهيم  ، عن  ابن أبي ليلى ،  عن الحكم ،  عن مقسم  ، عن  ابن عباس  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في الحج ثلاث خطب ؛ خطبة قبل التروية بيوم بعد الظهر ، وخطبة عشية عرفة ، وخطبة بعد النحر بيوم بعد الظهر .  
 [ ص: 122 ] ولم نسمع هذا الحديث من غير هذه الجهة . 
ويقول بعضهم : يخطب إحداهن قبل التروية ارتفاع النهار خطبة واحدة لا يجلس فيها ، ويخطب إحداهن يوم عرفة بعد زوال الشمس قبل أن يصلي الظهر ، ويجعلها خطبتين ، ويجلس بينهما يفعل في خطبة الجمعة ، ويخطب إحداهن يوم النحر حيث يرمي جمرة العقبة ضحوة ، خطبة واحدة لا يجلس فيها وممن قال بهذا القول منهم :  زفر بن الهذيل  فيما ذكره لنا محمد بن العباس  ، عن الجعفي ،  عن  الحسن  ، عن  زفر   . 
وكان بعضهم يقول : هي أربع خطب ، فخطبة منهن يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة يأمرهم فيها بالغدو من الغد إلى منى   . وخطبة أخرى يوم عرفة بعد الزوال ، وخطبة أخرى بعد الظهر يوم النحر ، يعلم الناس فيها النحر ، ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له ، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله عز وجل ، وطاعته واتباع أمره ومن قال ذلك منهم  الشافعي  ، ذكره لنا عنه  المزني  ولا نعلم لأهل العلم في الخطب في الحج قولا إلا هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها عنهم . 
فأما الخطبة الأولى ، وهي المختلف في موضعها التي قال أهل القول الأول : إنها قبل التروية بيوم ، وقال أهل القول الثاني : إنها يوم التروية ضحى ، فإن الذين جعلوها يوم التروية ضحى شبهوه بخطبتي العيدين : الفطر ، والنحر ، وقالوا : وجدناها في الصدر الأول من النهار ، فجعلنا هذه كذلك . 
وكان من الحجة عليهم لأهل القول الآخر ، أن خطبتي العيدين قد جعل لهما صلاتان ، ولم تجعل هذه كذلك ، إذ كانت لم تجعل لها صلاة قبلها ، ولا بعدها وكانت خطبة عرفة قد أجمع على أن وقتها بعد الزوال في الصدر الآخر من النهار ، وهي من خطب الحج ، فكان القياس على ذلك أن تكون هذه الخطبة التي هي من خطب الحج بخطبة عرفة التي هي من خطب الحج ، أشبه ، وأن يكون وقتها لوقتها ولما كانت الخطبة التي قبل عرفة في وقتها بخطبة عرفة أشبه في وقتها ، وانتفى أن تكون في الصدر الأول من النهار ، واستحال أن يجعل يوم التروية بعد الظهر ، إذ كان لا يتهيأ للإمام أن يخطبها بمكة ، وقد صلى صلاة الظهر بمنى  ، ثبت أن القول فيها كما قال الآخرون الذين جعلوها قبل التروية بيوم ، وإذ كان  [ ص: 123 ] لا قول فيها غير هذين القولين ، فلما انتفى أحدهما ثبت الآخر فهذا حكم الخطبة التي قبل عرفة من خطب الحج . 
وأما الخطبة الثانية من خطب الحج فلا يختلفون أنها في يوم عرفة ، وأنها بعد الزوال كما ذكرنا فيها ، غير أنهم اختلفوا في تقديم الأذان عليها ، وفي تقديمها على الأذان ، وفي ابتداء الإمام إياها مع أحد المؤذنين في الأذان ، فأما  أبو حنيفة  فكان يقول في ذلك فيما حدثنا سليمان بن شعيب  ، عن أبيه عن  محمد بن الحسن  ، عن  أبي يوسف  ، عن  أبي حنيفة  ، قال : قلت له : أرأيت الإمام كيف يصلي الظهر والعصر بعرفة  ؟ وكيف يخطب ؟ وكيف يصنع ؟  قال : يصعد المنبر ، ويؤذن المؤذن بالظهر والإمام على المنبر ، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام ، فخطب ، فحمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، وهلل ، وكبر ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ الناس ، وأمرهم بما يحق عليهم ، ونهاهم عما نهاهم الله عز وجل عنه ، ثم دعا الله بحاجته ، ثم نزل ، ثم أقام المؤذن ، ولم يحك في ذلك خلافا . 
وأما جعفر بن أحمد بن الوليد ،  فحدثنا عن  بشر بن الوليد الكندي ،  قال قال  أبو يوسف :  أرى للإمام أن يخطب في الحج ثلاث خطب :  إحداهن قبل التروية بيوم بعد الظهر ، يخبرهم فيها بمناسك حجهم ، ويخبرهم عن فضل الحج ، ويأمرهم بالذي يلزمهم فيه ، وينهاهم عما لا ينبغي لهم فيه والخطبة يوم عرفة كان  أبو حنيفة  يقول : فيها يصعد الإمام يوم عرفة ، ثم يؤذن المؤذن كأذان الجمعة ، ويخطب فيها كخطبة الجمعة ، فإذا نزل عن المنبر أقام قال : وقال أبو يوسف : سمعت بعض مؤذني عرفة ، يقول : كنا نؤذن بعدما يخطب الإمام صدرا من خطبته ليس بين يديه . 
وأما أحمد بن أبي عمران  فذكر لنا هذه الرواية أيضا عن  أبي يوسف  ، قال : وقال  أبو يوسف :  سألت عن ذلك بعض مؤذني مكة  ، فأخبروني أنهم أدركوا آباءهم على ذلك في تقدم الإمام في الخطبة المؤذنين في الآذان ، وأن آباءهم أخبروهم أنهم أدركوا الناس على ذلك وأن  أبا يوسف  رجع عن قول  أبي حنيفة  إلى هذا القول ، وأن  أبا يوسف  قد كان قال مرة : يبتدئ الإمام الخطبة والمؤذن الأذان معا كمثل ما حكينا عن  الشافعي  في ذلك . 
 [ ص: 124 ] ولو خلينا والقياس لكان القول في ذلك عندنا كما قال  أبو حنيفة  ، ولكانت خطبة يوم عرفة كخطبة الجمعة ، إذ فيها الجلوس كما في خطبة الجمعة ، ولكنا وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خلاف هذا القول ، وليس لأحد التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك : 
 1368  - أن  يحيى بن عثمان  ، وروح بن الفرج ،  جميعا قد حدثانا ، قالا : حدثنا  يوسف بن عدي الكوفي ،  قال حدثنا  عبد الرحيم بن سليمان الرازي ،  عن محمد بن علي وهو السلمي ،  عن  جعفر بن محمد  ، عن أبيه ، عن  جابر بن عبد الله  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين زالت الشمس ، فوقف بعرفة  ، فقال : إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت قال : اللهم اشهد ، وقال مع ذلك قولا كثيرا ، وأذن المؤذن ، ثم أقام الظهر بعد الخطبة .  
 1369  - وأن  الربيع بن سليمان المرادي  ، حدثنا ، قال حدثنا  أسد بن موسى ،  قال حدثنا  حاتم بن إسماعيل  ، قال حدثنا  جعفر بن محمد  ، عن أبيه ، عن  جابر بن عبد الله  ، في حديثه في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذا سواء ، غير أنه قال : ثم أذن بلال ،  ثم أقام ، فصلى الظهر بعد الخطبة . 
وحديث حاتم  في ترك قوله : بعد الخطبة ، أشبه عندنا من حديث  محمد بن علي  في قوله : بعد الخطبة ، لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأذان يكون بعد الفراغ من الخطبة ،  ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه خطبة عرفة قد ذكرناها أيضا بما قد روي فيها ، وبما قد قاله أهل العلم فيها ، والله نسأله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد   . 
ثم اعتبرنا هذه الزيادة التي في حديث  محمد بن علي  ، عن  جعفر بن محمد بن علي  ، عن  حاتم بن إسماعيل  في حديثه ، عن  جعفر بن محمد  وهي قوله : " ثم أذن بلال ،  ثم أقام  [ ص: 125 ] الظهر بعد الخطبة ، فوجدناه محتملا لأن يكون أراد بالإقامة أنها كانت بعد الخطبة ، وإن كان الأذان قد كان في الخطبة ، فلم يخرج ذلك من قول  أبي يوسف  الذي ثبت عليه . 
				
						
						
