ومما احتج به الجهمي في خلق القرآن أن ، قال : أليس القرآن خيرا ؟ فإذا قيل له بلى ، قال : أفتقولون أن من الخير ما لم يخلقه الله ؟ فيتوهم بجهله أن له في هذه حجة ولا حجة فيه لأجل أن كلام الله خير ، وعلم الله خير ، وقدرة الله خير ، وليس كلام الله ولا قدرته مخلوقين لأن الله لم يزل متكلما ، فكيف يخلق كلامه ؟  ولو كان  [ ص: 201 ] الله خلق كلامه لخلق علمه وقدرته ، فمن زعم ذلك ، فقد زعم أن الله كان ولا يتكلم ، وكان ولا يعلم ، فقالت الجهمية  على الله ما لم يعلمه الله ولا ملائكته ولا أنبياؤه ، ولا أولياؤه ، فخالفهم كلهم . 
قال الله عز وجل : وإذ قال ربك للملائكة  ، وإذ قلنا للملائكة  ، وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة  ومثل هذا في القرآن كثير . 
وقول الملائكة : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق  ، ولم يقولوا : ماذا خلق ربك قالوا الحق . 
وقال جبريل :  قال كذلك قال ربك هو علي هين   . 
وقول الله تعالى حين سألت بنو إسرائيل موسى  عن أمر البقرة حين : قالوا ادع لنا ربك  ، فقال موسى عليه السلام :  إنه يقول في غير موضع . 
وقال أولياء الله : سلام قولا من رب رحيم   .  [ ص: 202 ] 
وقال أعداء الله في النار : فحق علينا قول ربنا  ، فسمى الله قوله قولا ولم يسمه خلقا ، وسمت الملائكة قول الله قولا ولم تسمه خلقا ، وسمت الأنبياء قول الله قولا ولم تسمه خلقا ، وسمى أهل الجنة قول الله قولا ولم يسموه خلقا ، وسمى أهل النار قول الله قولا ولم يسموه خلقا ، وسمت الجهمية  قول الله خلقا ولم تسمه قولا خلافا على الله وعلى ملائكته وعلى أنبيائه وعلى أوليائه . 
ثم إن الجهمية  لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث ، مثل الحديث الذي روي :  " يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن : أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك فيأتي الله فيقول : أي رب! تلاني ووعاني وعمل بي "  [ ص: 203 ]  . 
والحديث الآخر :  " تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان " ، فأخطأ في تأويله ، وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله : يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ، يجيء ثواب ذلك كله ، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة . 
قال الله عز وجل : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره  ، فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر ، ليس يرى الخير  [ ص: 204 ] والشر وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب . 
كما قال عز وجل : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا  ، وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر ، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب . 
كما قال تعالى : من يعمل سوءا يجز به  ، فيجوز في الكلام أن يقال : يجيء القرآن ، تجيء الصلاة ، وتجيء الزكاة ، يجيء الصبر ، يجيء الشكر ، وإنما يجيء ثواب ذلك كله يجزى من عمل السيء بالسوء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره  ، أفترى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما ، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير . 
وأما ما جاءت به السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم :  " ظل المؤمن صدقته " ، فلا شيء أبين من هذا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :  " كل معروف صدقة " ، فإرشادك الضالة صدقة ، وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة ، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة ،  [ ص: 205 ] وأمرك بالمعروف صدقة ، ونهيك عن المنكر صدقة ، ومباضعتك لأهلك صدقة ، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله ؟ إنما عنى بذلك كله ثواب صدقته ، أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، فلينظر معسرا أو ليدع له " ، فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					