179 - فصل  
[ في معنى الفطرة ] .  
فإن قيل : فهذا كله بناء منكم على أن  الفطرة الأولى هي فطرة الإسلام   ،  وأحمد  قد نص على أن الفطرة هي ما فطر عليه من الشقاوة ، والسعادة ، فقال في رواية  الحسن بن ثواب     :  كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة   ، يولد على الفطرة التي خلقه الله عليها من الشقاوة ، والسعادة التي سبقت في الكتاب ، ارجع في ذلك إلى الأصل هذا معناه .  
وقال في رواية  حنبل  ،  وأبي الحارث  ،  والفضل بن زياد     : الفطرة التي فطر      [ ص: 945 ] العباد عليها من  
[ الشقاوة ] ، والسعادة .  
وقال في رواية  علي بن سعيد  ، وقد سأله عن الحديث : "  كل مولود يولد على الفطرة     " ، قال : على السعادة والشقاوة ، وإليه يرجع على ما خلق .  
وقال  محمد بن يحيى الكحال     : قلت  لأبي عبد الله     : "  كل مولود يولد على الفطرة     " ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد ، وإذا كان هذا نصه في الفطرة ، فكيف يكتم مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم ؟  
قيل : هذا موضع قد اضطربت فيه الأقدام ، وطال فيه النزاع ، والخصام ، ونحن نذكر فيه بعض ما انتهى إلينا من كلام أئمة الإسلام .  
قال   أبو عبيد القاسم بن سلام  في كتاب " غريب الحديث " الذي هو لما بعده من كتب الغريب إمام : " سألت  محمد بن الحسن  عن تفسير هذا الحديث ، فقال : كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد " .  
قال  أبو عبيد     : " فأما   عبد الله بن المبارك  فإنه سئل عن تأويل هذا الحديث      [ ص: 946 ] الآخر :  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أطفال المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين "     .  
قال  أبو عبيد     : فذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من كفر ، أو إسلام .  
قال  ابن قتيبة     : حكى  أبو عبيد  هذين القولين ، ولم يحل على نفسه في هذا قولا ولا اختيارا .  
قال   محمد بن نصر المروزي  في كتاب " الرد على  ابن قتيبة     " : فيقال له : وما على رجل حكى اختلافا في شيء ، ولم يتبين له الصواب فأمسك عن التقدم على ما لم يتبين له صوابه ، ما على هذا من سبيل ، بل هو محمود على التوقف عما لم يتبين له عسى أن يتبين له ، بل العيب المذموم من اجترأ      [ ص: 947 ] على القول فيما لا علم له ، ففسر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرا خالف فيه حكم الكتاب ، وخرج من قول أهل العلم ، وترك القياس والنظر ، فقال قولا لا يصلح في خبر ، ولا يقوم على نظر .  
وهو هذا العائب على  أبي عبيد     : زعم أن الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل مولود يولد عليها : هي خلقه في كل مولود معرفة بربه ، وزعم أنه على معنى قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم      ) الآية ، قال   محمد بن نصر     : قال الله تعالى : (  والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا      ) ، فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء ، وهو الله تعالى ، فمن أعظم جرما ، وأشد مخالفة للكتاب من سمع الله عز وجل يقول : (  والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا      ) ، فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء ، وهذا هو المعاند لرب العالمين ، والجاهل بالكتاب .  
قلت : إن أراد  أبو محمد     " المعرفة " المعرفة الثانية بالفعل التي هي للكبار ، فإنكار  أبي عبد الله  عليه متوجه ، وإن أراد أنه مهيأ للمعرفة ، وأن المعرفة فيه بالقوة كما هو مهيأ للفعل والنطق لم يلزمه ما ذكره  أبو عبد الله   [ ص: 948 ] كما إذا قيل : يولد ناطقا عاقلا بحيث إذا عقل عرف ربه بتلك القوة التي أودعها الله فيه دون الجمادات ، بحيث لو خلي وما فطر عليه ولم تغير فطرته لكان عارفا بربه ، موحدا له ، محبا له .  
فإن قيل :  أبو عبد الله  لم ينكر هذا ، وإنما أنكر أن يكون المراد بالفطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله سبحانه من بني آدم من ظهورهم حين أشهدهم على أنفسهم : (  ألست بربكم      ) ، فأقروا بذلك ، ولا ريب أن هذه المعرفة ، والإقرار غير حاصلين من الطفل ، فصح إنكار  أبي عبد الله     .  
قيل :  ابن قتيبة  إنما قال : الفطرة هي خلقه في كل مولود معرفة بربه على معنى قوله : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) الآية ، وهذا لا يلزم منه أن تكون المعرفة حاصلة في المولود بالفعل ، وتشبيهه الحديث بالآية في هذا المعنى لا يدل على أن الميثاق الذي ذكر في الآية هو المعرفة الفعلية قبل خروجهم إلى الدنيا أحياء ناطقين ، وإن كان هذا قد قاله غير واحد من السلف والخلف فلا يلزم  ابن قتيبة  أن يختار هذا القول ، بل هذا من حسن فهمه في القرآن ، والسنة : إذ حمل الحديث على الآية ، وفسر كلا منهما بالآخر . وقد قال هذا غير واحد من أهل العلم قبله وبعده ، وأحسن ما فسرت به الآية قوله - صلى الله عليه وسلم - : "  كل مولود يولد على الفطرة : فأبواه يهودانه وينصرانه     " فالميثاق الذي أخذه سبحانه عليهم ، والإشهاد الذي أشهدهم على أنفسهم ، والإقرار الذي أقروا به هو الفطرة التي فطروا عليها ؛ لأنه سبحانه احتج عليهم بذلك ، وهو لا يحتج      [ ص: 949 ] عليهم بما لا يعرفه أحد منهم ولا يذكره ، بل بما يشركون في معرفته ، والإقرار به .  
وأيضا ، فإنه قال : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) ، ولم يقل " من  آدم      " ، ثم قال : (  من ظهورهم      ) ، ولم يقل : " من ظهرهم " ، ثم قال : ( ذريتهم ) ، ولم يقل : ( ذريته ) ، ثم قال : (  وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم      ) وهذا يقتضي إقرارهم بربوبيته إقرارا تقوم عليهم به الحجة ، وهذا إنما هو الإقرار الذي احتج به عليهم على ألسنة رسله كقوله تعالى : (  قالت رسلهم أفي الله شك      ) ، وقوله : (  ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله      ) ، : (  ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله      ) ، : (  قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون   سيقولون لله      ) ، ونظائر ذلك كثيرة : يحتج عليهم بما فطروا عليه من الإقرار بربهم وفاطرهم ، ويدعوهم بهذا الإقرار إلى عبادته وحده ، وألا يشركوا به شيئا ، هذه طريقة القرآن .  
ومن ذلك هذه الآية التي في " الأعراف " وهي قوله : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) الآية ، ولهذا قال في آخرها : (  أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين   أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون      )      [ ص: 950 ] فاحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته على بطلان شركهم وعبادة غيره ، وألا يعتذروا ، إما بالغفلة عن الحق ، وإما بالتقليد في الباطل ، فإن الضلال له سببان : إما غفلة عن الحق ، وإما تقليد أهل الضلال ، فيطابق الحديث مع الآية ، ويبين معنى كل منهما بالآخر ، فلم يقع  ابن قتيبة  في معاندة رب العالمين ، ولا جهل الكتاب ، ولا خرج عن المعقول ، ولكن لما ظن  أبو عبد الله  أن معنى الآية أن الله سبحانه أخرجهم أحياء ناطقين من صلب  آدم   في آن واحد ، ثم خاطبهم ، وكلمهم وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته ، ثم ردهم في ظهره ، وأن  أبا محمد  فسر الفطرة بهذا المعنى بعينه ألزمه ما ألزمه .  
ثم قال   محمد بن نصر     : واحتج - يعني  ابن قتيبة     - بقوله تعالى : (  الحمد لله فاطر السماوات      ) خالقها ، وبقوله تعالى عن مؤمن آل فرعون في سورة يس : (  وما لي لا أعبد الذي فطرني      ) ، أي خلقني ، وبقوله : (  فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله      ) ، قال : وكان   أبو هريرة     - رضي الله عنه - يسرع بهذه الآية عند روايته لهذا الحديث ليدل على أن الفطرة خلقة .  
 [ ص: 951 ] قال   محمد بن نصر     : فيقال له : لسنا نخالفك في أن الفطرة خلقة في اللغة وأن فاطر السماوات والأرض خالقهما ، ولكن ما  
[ الدليل ] على أن هذه الخلقة هي معرفة ؟ هل عندك من دليل من كتاب الله ، أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة ؟ فإن أتيت بحجة من كتاب الله أو سنة رسوله أن الخلقة هي المعرفة ، وإلا فأنت مبطل في دعواك ، وقائل ما لا علم لك به .  
قلت : لم يرد  ابن قتيبة  ولا من قال بقوله : " إن الفطرة خلقة " أنها معرفة حاصلة بالفعل مع المولود حين يولد ، فهذا لم يقله أحد ، وقد قال  أحمد  في رواية  الميموني     : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، فقال له  الميموني     : الفطرة الدين ؟ قال : نعم .  
وقد نص في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه ، أو أحدهما حكم بإسلامه ، واستدل بالحديث : "  كل مولود يولد على الفطرة     " ففسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ، ولو لم يكن ذلك معناه عنده لما صح استدلاله بعد في بعض ألفاظه "  ما من مولود إلا يولد على هذه الملة     " .  
وأما قول  أحمد  في مواضع أخر : " يولد على ما فطر عليه من شقاوة ، أو سعادة " فلا تنافي بينه ، وبين قوله : إنها الدين ، فإن الله سبحانه قدر الشقاوة والسعادة وكتبهما ، وإنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل      [ ص: 952 ] الأبوين : فتهويدهما ، وتنصيرهما ، وتمجيسهما ، هو بما قدره الله تعالى ، والمولود يولد على الفطرة مسلما ، ويولد على أن هذه الفطرة السليمة قد يغيرها الأبوان كما قدر الله ذلك ، وكتبه ، كما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : "  كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيهما من جدعاء     " .  
فبين أن البهيمة تولد سليمة ، ثم يجدعها الناس ، وذلك أيضا بقضاء الله ، وقدره ، فكذلك المولود يولد على الفطرة مسلما ، ثم يفسده أبواه ، وإنما قال  أحمد  وغيره : ولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة ؛ لأن  القدرية   كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليست بقدر الله ، بل بما فعله الناس ؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة ، وكفره بعد ذلك من الناس ، ولهذا لما قيل  لمالك     : إن  القدرية   يحتجون علينا بأول الحديث .  
قال : احتجوا عليهم بآخره ، وهو قوله : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " فبين الأئمة أنه لا حجة فيه  للقدرية   ، فإنه لم يقل : إن الأبوين خلقا تهويده وتنصيره ،  والقدرية   لا تقول ذلك بل عندهم أنه تهود وتنصر باختياره ، ولكن كان الأبوان سببا في حصول ذلك بالتعليم ، والتلقين ، وهذا حق لا يقتضي نفي القدر السابق من العلم ، والكتاب ، والمشيئة ، بل ذلك مضاف إلى الله تعالى علما ، وكتابة ، ومشيئة ، وإلى الأبوين تسببا ، وتعليما ، وتلقينا ، وإلى الشيطان تزيينا ، ووسوسة ، وإلى العبد رضا ، واختيارا ، ومحبة .  
ولا ينافي هذا قوله في  حديث   ابن عباس     - رضي الله عنهما - إن  الغلام      [ ص: 953 ] الذي قتله  الخضر  طبع يوم طبع كافرا   ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا "  ، فإن معناه أنه قضي عليه وقدر في أم الكتاب أنه يكون كافرا ، فهي حال مقدرة كقوله : (  فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها      ) ، وقوله : (  وبشرناه بإسحاق نبيا      ) ، ونظائر ذلك ، وليس المراد : أن كفره كان موجودا بالفعل معه حتى طبع ، كما يقال : ولد ملكا ، وولد عالما ، وولد جبارا ومن ظن أن " الطبع " المذكور في الحديث هو " الطبع " في قوله تعالى : (  طبع الله على قلوبهم      ) ، فقد غلط غلطا ظاهرا ، فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع فإن الطبع على القلب إنما يوجد بعد كفره .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					