[ ص: 969 ]    181 - فصل  
[  ضلال  القدرية   في معنى ( الفطرة ) والرد عليهم      ] .  
قال شيخنا : واعلم أن هذا الحديث لما صارت  القدرية   يحتجون به على قولهم الفاسد ، صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه ،  فالقدرية   من  المعتزلة   ، وغيرهم يقولون : كل مولود يولد على الإسلام ، والله لا يضل أحدا ، ولكن أبواه يضلانه ، والحديث حجة عليهم من وجهين :  
أحدهما : أنه عند  المعتزلة   وغيرهم من المتكلمين لم يولد أحد منهم على الإسلام أصلا ، ولا جعل الله أحدا مسلما ، ولا كافرا ، ولكن هذا أحدث لنفسه الكفر ، وهذا أحدث لنفسه الإسلام ، والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع عند  القدرية   ، ولكن هو دعاهما إلى الإسلام ، وأزاح عللهما ، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان ، والكفر ، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان ، فإن ذلك عندهم غير مقدور ، ولو كان مقدورا لكان ظلما ، وهذا قول عامة  المعتزلة   ، وإن كان بعض متأخريهم  كأبي الحسين  يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ، ويقول : عند الداعي      [ ص: 970 ] والقدرة يجب وجود الإيمان ، فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة ، فهذا أحد الوجهين .  
الثاني : أنهم يقولون إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل ، فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية ، أو تكون من فعل الله تعالى ، وإن احتجت  القدرية   بقوله : "  فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه     " من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين ، يقال لهم : أنتم تقولون إنه لا يقدر الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين ولا نصرانيين ، ولا مجوسيين ، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ، ولا فعل من غيرهما ، فحينئذ لا حجة لكم في قوله : "  فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه     " .  
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى ، والضلال في قلب أحد ، فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك دعوة الأبوين إلى ذلك ، وترغيبهما فيه ، وتربية الولد عليه ، كما يفعل المعلم بالصبي ، وذكر الأبوين بناء على الغالب المعتاد ، وإلا فقد يقع ذلك من أحدهما ، ومن غيرهما حقيقة وحكما .  
قال   محمد بن نصر     : واحتج  ابن قتيبة  بقوله : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى      ) ، فأجابوا بكلام شاهدين مقرين على أنفسهم بأن الله      [ ص: 971 ] ربهم ، ثم ولدوا على ذلك .  
قال   محمد بن نصر     : فقوله : " ثم ولدوا على ذلك " زيادة منه ليست في الكتاب ، ولا جاءت في شيء من الأخبار .  
وسنذكر الأخبار المروية في تأويل هذه الآية لنبين للناظر فيها أنه لا حجة له فيها ، وأنه لا دليل في شيء منها أن الأطفال يولدون ، وهم عارفون بالله من وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم .  
قلت : قوله : " ثم ولدوا على ذلك " إن أراد به أنهم ولدوا حال سقوطهم وخروجهم من بطون أمهاتهم عالمين بالله ، وتوحيده ، وأسمائه ، وصفاته فقد أصاب في الرد عليه ، وإن أراد أنهم ولدوا على حكم ذلك الأخذ ، وأنهم لو تركوا لما عدلوا عنه إذا عقلوا ، فهو الصواب الذي لا يرد .  
قال  محمد     : فمن أجل ما روي في تأويل هذه الآية حديث   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - : حدثنا  يحيى  قال : قرأت على  مالك  ، عن   زيد بن أبي أنيسة  ، عن  عبد الحميد بن عبد الرحمن بن 
[ زيد ] بن الخطاب  ، عن   مسلم بن يسار الجهني  أن   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - سئل عن هذه الآية : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها ؟ فقال : " إن الله تعالى خلق  آدم   ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم      [ ص: 972 ] العمل ؟  
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من عمل أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخل به النار     .  
 [ ص: 973 ]  [ ص: 974 ] حدثنا   محمد بن يحيى  ، ثنا  محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي  ، عن أبيه ، أخبرنا   زيد بن أبي أنيسة  ، عن  عبد الحميد بن عبد الرحمن  ، عن  مسلم بن يسار  ، عن  نعيم بن ربيعة الأزدي  ، قال  مسلم     : سألت  نعيما  ، عن هذه الآية ،  فقال  نعيم     : كنت عند   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - فجاء رجل فسأله عنها ؟ فقال     . . . الحديث ، وهذا يبين علة الحديث الأول ، وأن  مسلم بن يسار  لم يسمعه من  عمر     .  
 [ ص: 975 ] قال : وحدثنا  إسحاق  ، أخبرنا   حكام بن سلم  ، عن  عنبسة  ، عن  
[  عمارة ] بن عمير  ، عن  أبي محمد  رجل من أهل  المدينة   قال :  سألت   عمر بن الخطاب  عن قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      )      [ ص: 976 ] فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها كما سألتني ، فقال : " خلق الله  آدم   بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم أجله فمسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ، ثم مسح ظهره فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار     " .  
قلت : هذا الحديث أدخله  مالك  في " موطئه " على ما فيه من العلة ، ونحن نذكر علته .  
قال  الترمذي     : هذا حديث حسن ،  مسلم بن يسار  لم يسمعه من  عمر  ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين  مسلم بن يسار  وبين  عمر  رجلا  
[ مجهولا ] .  
 [ ص: 977 ] وقال   أبو القاسم حمزة بن محمد الكناني     : لم يسمع  مسلم بن يسار  هذا من  عمر  ، رواه عن  نعيم  ، عن  عمر     .  
وقال   ابن أبي خيثمة     : قرأت على   يحيى بن معين  حديث  مالك  ، عن   زيد بن أبي أنيسة  ، فكتب بيده على  مسلم بن يسار     : " لا يعرف " .  
 [ ص: 978 ] وقال  أبو عمر     : " هذا حديث منقطع بهذا الإسناد ؛ لأن  مسلم بن يسار  هذا لم يلق   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - ، وبينهما في هذا الحديث  نعيم بن ربيعة  ، وهذا أيضا - مع هذا الإسناد - لا تقوم به حجة ،  ومسلم بن يسار  هذا مجهول ، قيل : إنه مدني ، وليس   بمسلم بن يسار البصري     " .  
قال : " وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم ؛ لأن  مسلم بن يسار  ونعيم بن ربيعة  جميعا غير معروفين بحمل العلم .  
ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة يطول ذكرها من حديث   عمر بن الخطاب  وغيره . "      [ ص: 979 ] انتهى .  
ونحن نذكر بعض تلك الأحاديث .  
قال   إسحاق بن راهويه     : أخبرنا   بقية بن الوليد  قال : أخبرني  الزبيدي محمد بن الوليد  ، عن   راشد بن سعد  ، عن  عبد الرحمن بن قتادة   [ ص: 980 ] 
[ النصري ]  ، عن أبيه ، عن   هشام بن حكيم بن حزام     :  أن رجلا قال : يا رسول الله ، أتبتدأ الأعمال ، أم قد قضي القضاء ؟ فقال : " إن الله لما أخرج ذرية  آدم   من ظهره أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه فقال : هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار     .  
أخبرنا  عبد الصمد  ، ثنا  حماد  ، ثنا [  الجريري     ] ، عن   أبي نضرة  أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له :  أبو عبد الله  دخل عليه أصحابه يعودونه ، وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله قبض قبضة بيمينه ، وأخرى بيده      [ ص: 981 ] الأخرى ، فقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي "  فلا أدري في أي القبضتين أنا     .  
أخبرنا  عمرو بن محمد  ، ثنا  إسماعيل بن رافع  ، عن  المقبري  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  إن  الله خلق  آدم   من تراب   ، ثم جعله طينا ، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا ، ثم خلقه ، وصوره ، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار كان إبليس يمر به فيقول : خلقت لأمر عظيم ، ثم نفخ الله فيه من روحه . قال : يا رب ما ذريتي ؟ قال : اختر يا  آدم      . قال : أختار يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين - ثم بسط الله      [ ص: 982 ] كفه فإذا كل من هو كائن من ذريته في كف الرحمن     " .  
أخبرنا  النضر  ، أخبرنا  أبو معشر  ، عن   سعيد المقبري  ،  ونافع مولى الزبير  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - قال : "  لما أراد الله أن يخلق  آدم      - فذكر خلق  آدم      - فقال له : يا  آدم   ، أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها ؟ فقال : يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين - فبسط يمينه ، فإذا فيها ذريته كلهم : ما هو خالق إلى يوم القيامة ، الصحيح على هيئته ، والمبتلى على هيئته ، والأنبياء على هيئاتهم ، فقال : ألا أغنيتهم كلهم ؟ فقال : إني أحببت أن أشكر     . . . . " وذكر      [ ص: 983 ] الحديث .  
وقال   محمد بن نصر     : ثنا   محمد بن يحيى  ، ثنا   سعيد بن أبي مريم  ، أخبرنا   الليث بن سعد  ، حدثني   ابن عجلان  ، عن   سعيد بن أبي سعيد المقبري  ، عن أبيه ،  عن   عبد الله بن سلام  قال : خلق الله  آدم   ، ثم قال : بيديه ، فقبضهما ، فقال : اختر يا  آدم   ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يديك يمين ، فبسطها ، فإذا فيها ذريته ، فقال من هؤلاء يا رب ؟ قال : من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة     .  
 [ ص: 984 ] حدثنا  إسحاق  ، ثنا  جعفر بن عون الخزاعي  ، أخبرنا  هشام بن 
[ سعد     ] ، عن   زيد بن أسلم  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "  لما خلق الله  آدم   مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة     . . . " وذكر الحديث .  
 [ ص: 985 ] ثنا  إسحاق  ،   وعمرو بن زرارة  قال : أنا  إسماعيل  ، عن  كلثوم بن جبير  ، عن   سعيد بن جبير  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) الآية ، قال : مسح ربك ظهر  آدم   فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، بـ "  نعمان      " هذا الذي وراء  عرفة   فأخذ ميثاقهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا     .  
ثنا  إسحاق  ، ثنا   وكيع  ، ثنا  ربيعة بن كلثوم بن جبر  ، عن أبيه ، عن   سعيد بن جبير  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) الآية ، قال : مسح الله ظهر  آدم   وهو  ببطن نعمان      - واد - إلى جنب  عرفة   فأخرج من ظهر  آدم   ذريته      [ ص: 986 ] فأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا     .  
ثم ساقه  إسحاق  من طرق متعددة عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - ثم قال :  
أخبرنا  المخزومي - وهو المغيرة بن سلمة     - ثنا  أبو هلال  ، عن   أبي جمرة الضبعي  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر  آدم   ، فأخرج      [ ص: 987 ] ذريته في  
[ آذي ] من الماء     .  
أخبرنا  جرير  ، عن   الأعمش  ، عن  مسلم البطين  ، عن   سعيد بن جبير  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر  آدم   ، فخرجت منه كل ذرية بددا إلى يوم القيامة فعرضوا عليه     .  
 [ ص: 988 ] حدثنا  الملائي  ، ثنا  المسعودي  ، عن  علي بن بذيمة  ، عن  سعيد  ،  عن   ابن عباس  في قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) الآية ، قال : إن الله أخذ على  آدم   ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ومصيباته ، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم ، فكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم     .  
حدثنا   وكيع  ، ثنا   الأعمش  ، عن   حبيب بن أبي ثابت  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال : مسح الله ظهر  آدم   ، فأخرج كل طيب في يمينه ، وفي يده الأخرى كل خبيث     .  
 [ ص: 989 ] ثنا  يحيى  ، ثنا  المسعودي  ، أخبرني  علي بن بذيمة  ، عن   سعيد بن جبير  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال : خلق الله  آدم   ، فأخذ ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ومصيبته ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر ، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم ، فكتب آجالهم ، وأرزاقهم ، ومصيباتهم     .  
وقال  عبد الرزاق     : حدثنا  معمر  ، عن  أبي صالح  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - في هذه الآية قال : مسح الله على صلب  آدم   ، فأخرج من صلبه ما يكون من ذريته إلى يوم القيامة ، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم فأعطوه ذلك ، فلا يسأل أحدا - كافرا أو غيره - من ربك ؟ إلا قال : الله     .  
قال  معمر     : وكان  الحسن  يقول مثل ذلك .  
 [ ص: 990 ] قال  إسحاق     : وأخبرنا  جرير  ، عن  منصور  ، عن  مجاهد  ،  عن   عبد الله بن عمرو  في قوله تعالى : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) الآية ، قال : أخذهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس     .  
 [ ص: 991 ] قال   محمد بن نصر     : وحدثنا   الحسن بن محمد الزعفراني  ، ثنا  حجاج  ، عن   ابن جريج  ، عن  الزبير بن موسى  ، عن   سعيد بن جبير  ،  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال : إن الله تعالى ضرب منكب  آدم   الأيمن ، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية ، فقال : هؤلاء أهل الجنة ، ثم ضرب منكبه الأيسر ، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء ، فقال : هؤلاء أهل النار ، ثم أخذ عهدهم على الإيمان به ، والمعرفة له ، وبأمره ، والتصديق له وبأمره من بني  آدم   كلهم ، وأشهدهم على أنفسهم ، فآمنوا ، وصدقوا ، وعرفوا ، وأقروا     .  
 [ ص: 992 ] قال  إسحاق     : وحدثنا   روح بن عبادة  ، ثنا   محمد بن عبد الملك  ، عن أبيه ، عن  الزبير بن موسى  ، عن   سعيد بن جبير  ، عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - بهذا الحديث ، وزاد :  قال   ابن جريج     : وبلغني أنه أخرجهم على كفه أمثال الخردل     .  
قال  إسحاق     : وحدثنا حكام بن سلم الرازي ، حدثنا  أبو جعفر الرازي  ، عن   الربيع بن أنس  ، عن  أبي العالية  ،  عن   أبي بن كعب  في قوله عز وجل : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) الآية ، قال : جمعهم يومئذ جمعا ، ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحا ، ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، وتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم . قال : فإني أشهد عليكم السماوات والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم  آدم   ، أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم هذا . اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، فإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي ، وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، ولا رب غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا يومئذ بالطاعة ، ورفع لهم أبوهم  آدم   ، فنظر ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : يا رب ، لو سويت بين عبادك ! فقال : إني أحببت أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة  ، فهو الذي يقول : (  وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم      ) . . .      [ ص: 993 ] إلى قوله : . . . (  غليظا      ) ، وهو الذي يقول : (  فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله      ) ، فلذلك قال : (  هذا نذير من النذر الأولى      ) ، وفي ذلك قال : (  وما وجدنا لأكثرهم من عهد      ) ، وفي ذلك قال : (  ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل      ) ، كان في علمه يوم أقروا بما أقروا به ، ومن يكذب به ومن يصدق .  
قال : وكان روح  عيسى   من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن  آدم   ، فأرسل ذلك إلى  مريم  حتى (  انتبذت من أهلها      ) . . . ، إلى قوله : . . . ( حملته ) . . . ، حملت الذي خاطبها ، وهو روح  عيسى      .  
 [ ص: 994 ]  [ ص: 995 ]  [ ص: 996 ] وفي تفسير  أسباط بن نصر  ، عن   السدي  ، عن  أبي مالك  ، وعن  أبي صالح  ، عن   ابن عباس  ،  وعن   مرة الهمداني  ، عن   ابن مسعود  ، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : (  وإذ أخذ ربك      ) . . . الآية ، قال : لما أخرج الله  آدم   من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر  آدم   اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ ، وكهيئة الذر ، فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ، ولا أبالي ، فذلك حين يقول : (وأصحاب اليمين      ) ، : (  وأصحاب الشمال      ) ، ثم أخذ منهم الميثاق فقال : (  ألست بربكم قالوا بلى      ) ، فأعطاه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين ، فقالت الملائكة : (  شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين   أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون      ) فلذلك ليس أحد من ولد  آدم   إلا وهو يعرف أن ربه الله ، ولا مشرك إلا وهو يقول : (  إنا وجدنا آباءنا على أمة      ) ، فلذلك قول الله عز وجل : (  وإذ أخذ ربك      ) الآية ، وذلك حين يقول : (  وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها      ) ، وذلك حين يقول : (  قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين      ) قال : يعني يوم أخذ عليهم الميثاق     .  
 [ ص: 997 ] قال  إسحاق     : وأخبرنا   روح بن عبادة  ، ثنا  موسى بن عبيدة الربذي  قال :  سمعت   محمد بن كعب القرظي  يقول في هذه الآية : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) ، فأقروا له بالإيمان ، والمعرفة : الأرواح قبل أن يخلق أجسادها     .  
قال  إسحاق     : وحدثنا   الفضل بن موسى  ، عن  عبد الملك  ،  عن  عطاء  قال :      [ ص: 998 ] أخرجوا من صلب  آدم   حين أخذ منهم الميثاق ، ثم ردوا في صلبه     .  
قال  إسحاق     : وأخبرنا  علي بن الأجلح  ،  عن  الضحاك  قال : إن الله أخرج من ظهر  آدم   يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة ، فأخرجهم مثل الذر ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، قالت الملائكة : شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم قبض قبضة بيمينه ، فقال : هؤلاء في الجنة ، وقبض أخرى ، فقال : هؤلاء في النار     .  
قال   محمد بن نصر     : وحدثنا  بندار  ، ثنا  أبو أحمد  ، ثنا  سفيان  ، عن   الربيع بن أنس  ،  عن  أبي العالية  في قوله : (  وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها      )      [ ص: 999 ] قال : أخذه الميثاق     .  
قال  محمد     : فقد ذكرنا ما حضرنا من الأخبار المروية عن السلف في تأويل قوله : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم      ) الآية ، وليس في شيء منها أن الطفل يسقط من بطن أمه وهو عارف بالله ، ولا في شيء منها دليل على ذلك .  
قلت :  أبو محمد  لم يرد أنهم ولدوا عارفين بالله معرفة حاصلة معهم بالفعل ، وإنما أراد أنهم ولدوا على حكم تلك الفطرة والميثاق الذي أخذ عليهم بحيث لو خلوا وفطرهم لما عدلوا عن موجب ذلك .  
 [ ص: 1000 ] قال  محمد     : فيقال له : هل عندك من دليل يدل على أن الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : "  أن كل مولود يولد عليها     " هي المعرفة بالله ؟ أو هل يحكى عن أحد من السلف أنه قال ذلك ؟ أو هل يدل على ذلك بقياس ؟ فإن أتى بشيء من هذه الدلائل ، وإلا بان باطل دعواه .  
فإن هو رجع إلى قوله : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم      ) الآية ، فقال : استشهاد الله ذرية  آدم   على أنه ربهم دليل على أن معرفة ذلك متقدمة عندهم كما استشهدهم عليه ، فهذه غاية حجته عند نفسه .  
قال : لأن كل مستشهد على شيء لم تتقدم المعرفة عنده بما استشهد عليه قبل الاستشهاد ، فإن المستشهد دعاه إلى أن شهد بقول الزور ، والله لا يأمر أحدا بذلك .  
فيقال له : إن إجابتك عن غير ما تسأل عنه ، واحتجاجك له هو الدليل على عجزك ، وعلى أنه لا حجة لك ، إنا لم نسألك عن الوقت الذي استشهدهم الله فيه ، وقال لهم : ألست بربكم ؟ فأجابوه بأن قالوا : بلى - هل كانوا عارفين في ذلك الوقت أم لا - إنما سألناك عن وقت سقوطهم من بطون أمهاتهم : هل عندك حجة تثبت أنهم في ذلك الوقت عارفون ؟  
فإن قال : إن ثبوت المعرفة لهم في ذلك الوقت دليل على أنهم ولدوا على ذلك ، فهم في وقت الولادة على ما كانوا عليه قبل ذلك .  
 [ ص: 1001 ] قيل له : فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين أيضا ، وذلك أن الله عز وجل أخبر أنه قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، والله عز وجل لا يخاطب إلا من يفهم عند المخاطبة ، ولا يجيب إلا من فهم السؤال ، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن الله ، وعقلوا عنه استشهاده إياهم : ألست بربكم ، فأجابوه من بعد عقلهم للمخاطبة وفهمهم لها بأن قالوا : بلى ، فأقروا له بالربوبية .  
فيقال له : فهكذا تقول : إن الطفل إذا سقط من بطن أمه فهو من ساعته يفهم المخاطبة إن خوطب ، ويجيب عنها ، ويقر له بالربوبية ، كإقرار الذين أقروا له بالربوبية في الوقت الذي أخذ عليهم الميثاق ، فإن قال : " نعم " كابر عقله وأكذبه العيان ، وإن قال : " لا " أقول : ذلك فرق بين الوقتين ، فجعل حالهم في وقت الولادة خلاف حالهم في الوقت الأول عند أخذ الميثاق منهم ، فيقال له : فكذلك جائز أن يكونوا في الوقت الأول عارفين ، وهم في وقت الولادة غير عارفين كما كانوا في الوقت الأول ، فقد فهموا المخاطبة ، وعقلوها ، وأجابوا مقرين لله بالربوبية ، وهم في وقت الولادة على خلاف ذلك .  
قلت : كل من قال بأن العهد الذي أخذ عليهم هو أنهم أخرجوا من صلب  آدم   وخوطبوا ، وأقروا له بالربوبية ، ثم ردوا في صلبه ، فإنه يفرق بين حالهم ذلك الوقت وحالهم وقت الولادة قطعا ، ولا يقول  ابن قتيبة  ولا غيره : إنهم ولدوا عارفين فاهمين يفهمون السؤال ، ويردون الجواب ، فالأقسام أربعة :  
أحدها : استواء حالتهم وقت أخذ العهد ، ووقت سقوطهم - في      [ ص: 1002 ] العلم والمعرفة .  
الثاني : استواء الوقتين في عدم ذلك .  
الثالث : حصول المعرفة عند السقوط ، وعدمها عند أخذ العهد ، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة لا يقول بواحد منها .  
الرابع : معرفتهم وفهمهم وقت أخذ العهد دون وقت السقوط ، وهذا يقوله كل من يقول : إنه أخرجهم من صلب أبيهم  آدم   ، وكلمهم ، وخاطبهم ، وأشهد عليهم ملائكته ، وأشهدهم على أنفسهم ، ثم ردهم في صلبه .  
وهذا قول جماهير من السلف والخلف ، واعتمدوا على ما ذكرنا من هذه الآثار مرفوعها وموقوفها .  
وأحسن شيء فيها حديث  مسلم بن يسار  ، عن   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - ، وقد ذكرنا كلام الأئمة فيه ، على أن  إسحاق  قد رواه عن   حكام بن سلم  ، عن  
[  عمارة ] بن عمير  ، عن  أبي محمد  رجل من أهل  المدينة   قال :  سألت   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - عن هذه الآية ، فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، فقال : " خلق الله  آدم   بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم أجلسه فمسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ، ثم مسح ظهره ، فأخرج ذرا ، فقال : ذر ذراتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ، ثم أختم لهم بأسوأ أعمالهم ، فأدخلهم النار     " ، فهذا لا ذكر فيه لمخاطبتهم ، وسؤالهم      [ ص: 1003 ] واستنطاقهم ، وهو موافق لسائر الأحاديث ، ويشبه أن يكون هو المحفوظ عن  عمر     - رضي الله عنه .  
وأما سائر الأحاديث فالمرفوع الصحيح منها إنما فيه إثبات القبضتين ، وتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة قبل إخراجهم إلى دار التكليف : مثل الحديث الذي رواه  أحمد  ، عن  عبد الصمد  ، ثنا  حماد  ، ثنا  
[  الجريري     ] ،  عن   أبي نضرة  أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له :  أبو عبد الله  دخل عليه أصحابه يعودونه ، وهو يبكي ، فقالوا له : ما يبكيك ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله قبض قبضة بيمينه ، وأخرى بيده الأخرى ، فقال : هذه لهذه ، وهذه لهذه ، ولا أبالي " فلا أدري في أي القبضتين أنا     !  
وكذلك حديث  المقبري  ، عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه - يرفعه - الذي تقدم هو وغيره من الأحاديث التي فيها : "  إن الله أخرج ذرية  آدم   من ظهره ، وأراه إياهم ، وجعل أهل السعادة في قبضته اليمنى ، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى     " .  
 [ ص: 1004 ] وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم ، وأشهدهم ، وخاطبهم فهي بين موقوفة ، ومرفوعة لا يصح إسنادها كحديث  مسلم بن يسار  ، وحديث   هشام بن حكيم بن حزام     : فإن في إسناده   بقية بن الوليد  ،   وراشد بن سعد  ، وفيهما مقال ،  
[  وقتادة النصري  ، ] وهو مجهول .  
 [ ص: 1005 ]  [ ص: 1006 ] وبالجملة ، فالآثار في إخراج الذرية من ظهر  آدم   ، وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها ، وإنكارها ، ويكفي وصولها إلى التابعين ، فكيف بالصحابة ؟ ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين ، ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر ، وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون ، وعلم الشقي والسعيد من ذرية  آدم   ، وسواء كان ما استخرجه فرآه  آدم   هو أمثالهم ، أو أعيانهم ، فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ، ولا يدل عليه القرآن : فإن القرآن يقول فيه : (  وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم      ) فذكر الأخذ من ظهور بني  آدم   لا من نفس ظهر  آدم   ، " وذريتهم " يتناول كل من ولدوه إن      [ ص: 1007 ]  [ ص: 1008 ] كان كثيرا ، كما قال في تمام الآية : (  أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم      ) ، وقال تعالى : (  إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين   ذرية بعضها من بعض      ) ، وقال : (  ذرية من حملنا مع نوح      ) ، وقال : (  ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون      ) ، فاسم " الذرية " يتناول الكبار ، وقوله : (  وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى      ) ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره ، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه .  
قال تعالى : (  كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين      ) ، كما احتج الفقهاء بذلك على صحة الإقرار .  
وفي حديث  ماعز بن مالك     : " فلما  شهد على نفسه أربع مرات     " أي      [ ص: 1009 ] أقر أربع مرات ، وقال تعالى : (  ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر      ) ، فإنهم كانوا مقرين بما هو كفر ، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم .  
ومنه قوله : (  ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين      ) ، فشهادتهم على أنفسهم هي إقرارهم وهي أداء الشهادة على أنفسهم ، ولفظ " شهد فلان " ، و " أشهد به " يراد به تحمل الشهادة ، ويراد به أداؤها .  
فالأول كقوله : (  وأشهدوا ذوي عدل منكم      ) .  
والثاني : كقوله : (  كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم      ) .  
وقوله : (  وأشهدهم على أنفسهم      ) ، من هذا الثاني ليس المراد : أنه جعلهم يتحملون الشهادة على أنفسهم ، ويؤدونها في وقت آخر ، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره ، كما في قصة  آدم   ، لما      [ ص: 1010 ] أشهد عليه الملائكة ، وكما في شهادة الملائكة ، وشهادة الجوارح على أصحابها ، ولهذا قال بعض المفسرين : المعنى ( أشهد بعضهم على بعض ) ، لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه ، بمعنى أداء الشهادة على نفسه ، وقولهم "  بلى شهدنا      " : هو إقرارهم بأنه ربهم ، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ، فإن قولهم : "  بلى شهدنا      " معناه : أنت ربنا ، وهذا إقرار منهم بربوبيته لهم ، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به ، وقوله : " أشهدهم " يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم ، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم ، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ، ونزوله في أرحام الأمهات ، لكن لم يذكر هنا الأمهات ، كقوله : (  أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم      ) ، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات ، كما قالوا : (  إنا وجدنا آباءنا على أمة      ) ، ولهذا قال : (  أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم      ) ، فهو سبحانه يقول : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق ، شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم ، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة ، فهو يذكر أخذه لهم ، وإشهاده إياهم على أنفسهم ، فإنه سبحانه خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فأخذهم يتضمن خلقهم ، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا      [ ص: 1011 ] الإقرار ، فإنه قال : " أشهدهم " أي جعلهم شاهدين ، فهذا الإشهاد من لوازم الإنسان ، وكل إنسان جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق ، والله خالقه ، وهذا أمر ضروري لبني  آدم   لا ينفك منه مخلوق ، وهو مما جبلوا عليه ، فهو علم ضروري لهم لا يمكن أحدا جحده ، ثم قال بعد ذلك : ( أن تقولوا ) ، أي كراهية أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا : (  إنا كنا عن هذا غافلين      ) ، أي عن هذا الإقرار لله بالربوبية ، وعلى نفوسنا بالعبودية ، فإنهم ما كانوا غافلين عن هذا ، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط ، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني  آدم   من علوم العدد والحساب وغير ذلك ، فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية ، لكن كثيرا من الناس غافل عنها .  
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه ، بل لا بد أن يكون قد عرفه ، وإن قدر أنه نسيه . ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا ، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية ، وقد ينساها العبد كما قال تعالى : (  ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم      ) ، وفي الحديث الصحيح : "  يقول الله للكافر : فاليوم أنساك كما نسيتني     " .  
 [ ص: 1012 ] ثم قال : (  أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون      ) ، فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد :  
إحداهما : أن يقولوا : (  إنا كنا عن هذا غافلين      ) ، فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته ، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل ، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري ، وهو حجة على نفي التعطيل .  
والثاني : أن يقولوا : (  إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون      ) ، وهم آباؤنا المشركون : أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا ؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين ، وهم ذرية من بعدهم ، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات ، والمساكن ، والملابس ، والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ، ولهذا كان أبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة ، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك ، قالوا : نحن معذورون ، وآباؤنا هم الذين أشركوا ، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم ، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم : فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم ، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك ، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم .  
فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة ، وكانت الفطرة الموجبة      [ ص: 1013 ] للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها ، وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول ، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا . وهذا لا يناقض قوله تعالى : (  وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا      ) ، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد ، ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع ، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم ، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ، ومعرفتهم بذلك أمر لازم لكل بني  آدم   ، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله ، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلا ، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له ، فلم يكن معذورا في التعطيل ، والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب .  
ثم إن الله سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه ، وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب : فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما :  
إحداهما : ما فطره عليه ، وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ، ومليكه وفاطره ، وحقه عليه لازم .  
والثانية : إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك ، وتقريره وتكميله ، فيقوم عليه شاهد الفطرة ، والشرعة ، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى :      [ ص: 1014 ]    (  وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين      ) ، فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					