[ ص: 1086 ]    195 - فصل : أولاد المشركين ، والمذاهب العشرة فيهم .  
وأما  أولاد المشركين   ، فاختلف أهل العلم فيهم على عشرة مذاهب ، نحن نذكر أدلتها ونبين راجحها من مرجوحها بحول الله وقدرته وتوفيقه .  
المذهب الأول : الوقف في أمرهم :  
ولا نحكم لهم بجنة ولا نار ، ونكل علمهم إلى الله : وهذا قد يعبر عنه بمذهب الوقف ، وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة ، وأنهم تحت مشيئة الله يحكم فيهم بما يشاء ، ولا يدرى حكمه فيهم ما هو .  
واحتج أرباب هذا القول بحجج منها :  
ما خرجا في " الصحيحين " من حديث   أبي هريرة     - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "  ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت ، وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
ومنها ما في " الصحيحين " أيضا عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أولاد المشركين ، فقال : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " ، وقد تقدمت هذه الأحاديث آنفا .  
 [ ص: 1087 ] وفي " صحيح "   أبي حاتم بن حبان  من حديث   جرير بن حازم     : قال سمعت   أبا رجاء العطاردي  قال : سمعت   ابن عباس     - رضي الله عنهما - يقول وهو على المنبر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "  لا يزال أمر هذه الأمة موائما - أو مقاربا - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر     " .  
قال أبو حاتم : " الولدان " أراد بهم أطفال المشركين .  
وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب فيهم بالوقف ، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله ، والمعنى : " الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا " ، فهو سبحانه يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش ، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش ، ولكن لا يدل هذا على أنه سبحانه يجزيهم بمجرد علمه فيهم بلا عمل يعملونه ، وإنما يدل هذا على أنه يعلم من يؤمن ، ومن يكفر ، بتقدير الحياة .  
 [ ص: 1088 ] وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه - صلى الله عليه وسلم .  
وفي " صحيح "   أبي عوانة الإسفراييني  ، عن  هلال بن خباب  ، عن  عكرمة  ، عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - :  كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، فسأله رجل : ما تقول في اللاهين ؟ فسكت عنه ، فلما فرغ من غزوة  الطائف   إذا هو بصبي يبحث في الأرض ، فأمر مناديه فنادى : أين السائل عن اللاهين ؟ فأقبل الرجل ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الأطفال ، وقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
 [ ص: 1089 ] فقوله : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " عقيب نهيه عن قتلهم يكشف لك المعنى ، ويوضحه ، ويبين أن الله سبحانه يعلم - لو أدركوا - ما كانوا يعملون ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، فلعل أحدهم إذا أدرك يعمل بطاعة الله ، ويكون مسلما ، فهذا أحد الوجهين في جوابه - صلى الله عليه وسلم .  
والوجه الثاني : أنه خرج جوابا لهم حين أخبرهم " أنهم من آبائهم " فقالوا : بلا عمل ؟ فقال : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " ، كما في " السنن " من حديث  عائشة     - رضي الله عنها - قالت :  قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ فقال : " هم من آبائهم " ، فقلت : يا رسول الله بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم - لو عاشوا - لاختاروا الكفر وعملوا به ، فهؤلاء مع آبائهم ، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار ، فإن الكلام في هذا الجنس - سؤالا وجوابا - إنما يدل على التفصيل ، فإن قوله : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " يدل على أنهم متباينون في التبعية بحسب تباينهم في معلوم الله تعالى فيهم .  
يبقى أن يقال : فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل ، ولهذا فهمت منه  عائشة     - رضي الله عنها - ذلك ، فقالت : " بلا عمل ؟ " فأقرها عليه ، وقال : "  الله أعلم بما كانوا عاملين     " .  
 [ ص: 1090 ] ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل في أحكام الدنيا ، وهو الذي فهمته  عائشة     - رضي الله عنها - ولكن لا ينفي هذا أن يلحقوا بهم في الآخرة بأسباب أخر كامتحانهم في عرصات القيامة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، فحينئذ يلحقون بآبائهم ، ويكونون معهم بلا عمل عملوه في الدنيا .  
وأم المؤمنين - رضي الله عنها - إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء ، وأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يعلم منهم ما هم عاملوه ، ولم يقل لها : إنه يعذب بمجرد علمه فيهم ، وهذا ظاهر بحمد الله .  
وأما حديث أبي  رجاء العطاردي  ، عن   ابن عباس  ففي " رفعه " نظر ، والناس إنما رووه " موقوفا عليه " وهو الأشبه ،   وابن حبان  كثيرا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف : كما رفع قول   أبي بن كعب     : "  كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة     " ، وهذا لا يشبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغايته أن يكون كلام  أبي     .  
 [ ص: 1091 ]  [ ص: 1092 ] والحديث ولو صح إنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم ، أو ضرب النصوص بعضها ببعض كما يفعله أهل الجدل والمباحثة الذين لا تحقيق عندهم ، ولم يصلوا في العلم إلى غايته ، بل هم في أطراف أذياله ، وبلاء الأمة من هذا الضرب ، وهم الغالب على الناس ، وبالله التوفيق .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					