[ ص: 501 ] وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول   عملا به وتصديقا له - : يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة ، وهو أحد قسمي المتواتر . ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع ، كخبر   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه :  إنما الأعمال بالنيات  ، وخبر   ابن عمر  رضي الله عنهما :  نهى عن بيع الولاء وهبته ،  وخبر   أبي هريرة     :  لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها  ، وكقوله :  يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب  ، وأمثال ذلك . وهو نظير خبر الذي أتى مسجد  قباء   وأخبر أن      [ ص: 502 ] القبلة تحولت إلى  الكعبة   ، فاستداروا إليها .  
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحادا ، ويرسل كتبه مع الآحاد ، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد ! وقد قال تعالى :  هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله      [ التوبة : 33 ] . فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته .  
ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته ، وبين حاله للناس . قال   سفيان بن عيينة     : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث .  وقال   عبد الله بن المبارك     : لو هم رجل في البحر أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب     .  
وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب - ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلا بالحديث ، والبحث عن سيرة الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك . وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم يزك      [ ص: 503 ] الإسلام وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث . فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم - : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه .  
ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلا أن يكون معلوما لهم أو مظنونا . كما أن النحاة عندهم من أخبار   سيبويه  والخليل  وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام  بقراط  وجالينوس  ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك ! ! لعد ذلك جهلا كثيرا .  
ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى :  ليس كمثله شيء      [ الشورى : 11 ] : مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم - ردوه بـ "  ليس كمثله شيء   تلبيسا منهم وتدليسا على من هو أعمى قلبا منهم ، وتحريفا لمعنى الآي عن مواضعه .  
ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين ! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ "  ليس كمثله شيء   تحريفا للنصين ! ! ويصنفون الكتب ، ويقولون : هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده ، ويقرءون كثيرا من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى ، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول ، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله .  
 [ ص: 504 ] وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث ، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم . فقال تعالى :  أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون      [ البقرة : 75 ] إلى أن قال :  ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون      [ البقرة : 78 ] . والأماني : التلاوة المجردة ، ثم قال تعالى :  فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون      [ البقرة : 79 ] . فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله ، وعلى اكتسابهم بذلك ، فكلا الوصفين ذميم : أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده ، وأن يأخذ بذلك عوضا من الدنيا مالا أو رياسة . نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، بمنه وكرمه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					