فإذا كان  صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن ،   فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله ، كيف يخفى صدق هذا من كذبه ؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة ؟ ولهذا لما كانت   خديجة  رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار ، قال لها لما جاءه الوحي :  إني قد خشيت على نفسي ، فقالت : كلا - والله لا يخزيك الله [ أبدا ] ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين      [ ص: 145 ] على نوائب الحق     . فهو لم يخف من تعمد الكذب ، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب ، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء ، وهو المقام الثاني ، فذكرت   خديجة  ما ينفي هذا ، وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة : فإنه لا يخزيه .  
وكذلك قال   النجاشي  لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرؤوا عليه : إن هذا والذي جاء به  موسى   عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة .      [ ص: 146 ] وكذلك  ورقة ابن نوفل  ، لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه ، وكان  ورقة  قد تنصر ، وكان يكتب الإنجيل بالعربية ، فقالت له   خديجة     : أي عم ، اسمع من ابن أخيك ما يقول ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال : هذا هو الناموس الذي كان يأتي  موسى      .  
وكذلك  هرقل  ملك  الروم ،   فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، طلب من كان هناك من العرب ، وكان  أبو سفيان  قد قدم في طائفة من  قريش   في تجارة إلى  الشام   ، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأل  أبا سفيان  ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار ، سألهم : هل كان في آبائه من ملك ؟ فقالوا : لا ، قال : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فقالوا : لا ، وسألهم : أهو ذو نسب فيكم ؟ فقالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقالوا : لا ، ما جربنا عليه كذبا ،      [ ص: 147 ] وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم ؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه ؟ وسألهم : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم : هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقالوا : لا ، وسألهم : هل قاتلتموه ؟ قالوا : نعم ، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه ؟ فقالوا : يدال علينا مرة وندال عليه أخرى ، وسألهم : هل يغدر ؟ فذكروا أنه لا يغدر ، وسألهم : بماذا يأمركم ؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة     . وهذه أكثر من عشر مسائل ، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة ، فقال : سألتكم هل كان في آبائه من ملك ؟ فقلتم : لا ، قلت : لو كان في آبائه من ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتكم هل قال هذا القول فيكم أحد قبله ؟ فقلتم : لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد قبله لقلت : رجل ائتم بقول قيل قبله ، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقلتم :      [ ص: 148 ] لا ، فقلت : قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله ، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم ؟ فقلتم : ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، يعني في أول أمرهم ، ثم قال : وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون ؟ فقلتم ، بل يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الإيمان ، إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد .  
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق ، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر ، فيرجع عنه أصحابه ، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه ، والكذب لا يروج إلا قليلا ثم ينكشف .  
وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فقلتم : إنها دول ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها ، قال : وسألتكم هل يغدر ؟ فقلتم : لا ، وكذلك الرسل لا تغدر ،      [ ص: 149 ] وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون - علم أن هذه علامات الرسل ، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء ، لينالوا درجة الشكر والصبر .  
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له     .  
والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال :  ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين      ( آل عمران : 139 ) ، الآيات . وقال تعالى :  الم   أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون      ( العنكبوت : 1 - 2 ) ،      [ ص: 150 ] الآيات . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول .  
قال : وسألتكم عما يأمر به ؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، وهذه صفة نبي ، وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث ، ولم أكن أظنه منكم ، ولوددت أني أخلص إليه ، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه ، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين . وكان المخاطب بذلك   أبو سفيان بن حرب  ، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال   أبو سفيان بن حرب     : فقلت لأصحابي ونحن خروج ، لقد أمر أمر   ابن أبي كبشة  ، إنه ليعظمه ملك  بني الأصفر   ، وما زلت موقنا بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر ، حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره .  
ومما ينبغي أن يعرف : أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور ، قد لا يستقل بعضها به ، بل ما يحصل للإنسان - من شبع وري وشكر وفرح وغم - فأمور مجتمعة ، لا يحصل ببعضها ، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر .  
وكذلك العلم بخبر من الأخبار ، فإن خبر الواحد يحصل للقلب      [ ص: 151 ] نوع ظن ، ثم الآخر يقويه ، إلى أن ينتهي إلى العلم ، حتى يتزايد ويقوى . وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك .  
وأيضا : فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة ، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة ، كتواتر الطوفان ، وإغراق فرعون وجنوده ، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيا بعد نبي ، في سورة الشعراء ، كقصة  موسى   وإبراهيم   ونوح   ومن بعده ، يقول في آخر كل قصة :  إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين   وإن ربك لهو العزيز الرحيم      ( الشعراء : 67 - 68 ) .  
وبالجملة : فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول إنه رسول الله ، وأن أقواما اتبعوهم ، وأن أقواما خالفوهم ، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين ، وجعل العاقبة لهم ، وعاقب أعداءهم : هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها . ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك  الفرس   وعلماء الطب ،  كبقراط  وجالينوس   [ ص: 152 ] وبطليموس  وسقراط  وأفلاطون  وأرسطو  وأتباعه .  
ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم - علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة : منها : أنهم  أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم      . ومنها :  ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم ،   إذا عرف الوجه الذي حصل عليه ، - كغرق فرعون وغرق قوم  نوح   وبقية أحوالهم - عرف صدق الرسل .  
 [ ص: 153 ] ومنها : أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها ، تبين له أنهم أعلم الخلق ، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل ، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم - ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق . 
ولذكر  دلائل نبوة  محمد   صلى الله عليه وسلم من المعجزات   وبسطها موضع آخر ، وقد أفردها الناس بمصنفات ،  كالبيهقي  وغيره .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					