فإن قيل : يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم :  لا تفضلوني على  موسى   ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد  موسى   باطشا      [ ص: 159 ] بساق العرش ، فلا أدري هل أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله ؟  خرجاه في الصحيحين ، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله  أنا سيد ولد  آدم   ولا فخر     .  
فالجواب : أن هذا كان له سبب ، فإنه كان قد قال يهودي : لا والذي اصطفى  موسى   على البشر ، فلطمه  مسلم  ، وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ؟ فجاء اليهودي فاشتكى من  المسلم  الذي لطمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، لأن  التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس   كان مذموما ، بل نفس الجهاد إذا  قاتل الرجل حمية وعصبية   كان مذموما ، فإن الله حرم الفخر ، وقد قال تعالى :  ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض      ( الإسراء : 55 ) . وقال تعالى :  تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات      ( البقرة : 253 ) . فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر ، أو على وجه الانتقاص بالمفضول . وعلى هذا يحمل أيضا      [ ص: 160 ] قوله صلى الله عليه وسلم :  لا تفضلوا بين الأنبياء  ، إن كان ثابتا ، فإن هذا قد روي في نفس حديث  موسى   ، وهو في   البخاري  وغيره . لكن بعض الناس يقول : إن فيه علة ، بخلاف حديث  موسى   ، فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم .  
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ، وهو : أن قوله صلى الله عليه وسلم :  لا تفضلوني على موسى  ، وقوله :  لا تفضلوا بين الأنبياء  نهي عن التفضيل الخاص ، أي : لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه ، بخلاف قوله :  أنا سيد ولد  آدم   ولا فخر  فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه . وهذا كما لو قيل : فلان أفضل أهل البلد ، لا يصعب على أفرادهم ، بخلاف ما لو قيل لأحدهم : فلان أفضل منك . ثم إني رأيت   الطحاوي  رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار .  
 [ ص: 161 ] وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  لا تفضلوني على  يونس بن متى   ، وأن بعض الشيوخ قال : لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالا جزيلا ، فلما أعطوه فسره بأن قرب  يونس   من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج وعدوا هذا تفسيرا عظيما . وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظا ومعنى ، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها ، وإنما اللفظ الذي في الصحيح :  لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من  يونس بن متى      . وفي رواية :  من قال إني خير من  يونس بن متى   فقد كذب     . وهذا اللفظ يدل على العموم ، لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على  يونس بن متى   ، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا  محمدا   على  يونس   ، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم ، أي : فاعل ما يلام عليه . وقال تعالى :  وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين      ( الأنبياء : 87 ) . فقد يقع في نفس بعض      [ ص: 162 ] الناس أنه أكمل من  يونس   ، فلا يحتاج إلى هذا المقام ، إذ لا يفعل ما يلام عليه . ومن ظن هذا فقد كذب ، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال  يونس      :  أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين   ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم ، فأولهم :  آدم   ، قد قال :  ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين      ( الأعراف : 23 ) . وآخرهم وأفضلهم وسيدهم :  محمد   صلى الله عليه وسلم ، قال في الحديث الصحيح ، حديث الاستفتاح ، من رواية   علي بن أبي طالب  رضي الله عنه وغيره ، بعد قوله ( وجهت وجهي ) إلى آخره :  اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، لا يغفر الذنوب إلا أنت  ، إلى آخر الحديث ، وكذا قال  موسى   عليه السلام :  رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم      ( القصص : 16 ) . وأيضا :  فيونس   صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه :  فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت      ( القلم : 48 ) ، فنهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به ، وأمره بالتشبه بأولي العزم حيث قيل له :  فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل      ( الأحقاف : 35 ) ، فقد يقول من يقول : أنا خير من  يونس      : وليس للأفضل أن يفخر على من دونه ، فكيف إذا لم يكن أفضل ، فإن الله لا يحب كل مختال فخور ، وفي صحيحمسلم  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  أوحي إلي      [ ص: 163 ] أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد     . فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين ، فكيف على نبي كريم ؟ فلهذا قال :  لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من  يونس بن متى      . فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على  يونس      . وقوله :  من قال إني خير من  يونس بن متى   فقد كذب  ، فإنه لو قدر أنه كان أفضل ، فهذا الكلام يصير نقصا ، فيكون كاذبا ، وهذا لا يقوله نبي كريم ، بل هو تقدير مطلق ، أي : من قال هذا فهو كاذب ، وإن كان لا يقوله نبي ، كما قال تعالى :  لئن أشركت ليحبطن عملك      ( الزمر : 65 ) ، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوما من الشرك ، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال .  
وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد  آدم   ، لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره ، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله ، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله ، صلى الله عليهم وسلم أجمعين . ولهذا أتبعه بقوله ولا فخر ، كما جاء في رواية . وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر : أن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم - كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم ؟ ! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب ؟ ! فهذا في غاية التقريب ، وهذا في غاية التأديب . فانظر إلى هذا الاستدلال ، لأنه بهذا المعنى المحرف للفظ لم يقله الرسول ،      [ ص: 164 ] وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه ، التي تزيد على ألف دليل ، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله ( محيط بكل شيء وفوقه ) ، إن شاء الله تعالى .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					