وقالت طائفة : بل ثبتت بالنص المذكور في الأحاديث التي تقدم [ ص: 511 ] [ إيراد بعضها ] [1] مثل قوله في الحديث الصحيح : لما جاءته المرأة [2] تسأله عن أمر ، فقالت : أرأيت إن لم أجدك ؟ كأنها تعني الموت ، فقال : " ائتي أبا بكر " [3] . ومثل [4] قوله - صلى الله عليه وسلم - [5] في [ الحديث ] الصحيح لعائشة [ رضي الله عنها ] [6] : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس بعدي " . ثم قال : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " [7] .
ومثله قوله في [ الحديث ] الصحيح [8] : " رأيت [9] كأني على قليب أنزع منها ، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له ، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا [ من الناس ] [10] يفري فريه حتى ضرب [11] الناس بعطن " [12] .
[ ص: 512 ] ومثل قوله : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " . وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة ، فصلى بهم مدة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من يوم الخميس إلى يوم الخميس إلى يوم الاثنين ، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة فصلى بهم جالسا ، وبقي أبو بكر يصلي بأمره سائر الصلوات ، وكشف الستارة يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسر بذلك [13] ، وقد قيل : إن آخر صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت خلف أبي بكر ، وقيل : ليس كذلك .
ومثل قوله في [ الحديث ] [14] الصحيح على منبره : " لو كنت متخذا من أهل [15] الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر " [16] . [ ص: 513 ] وفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث ، عن الحسن ، عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم : " من رأى [17] منكم رؤيا ؟ " فقال رجل : أنا رأيت كأن ميزانا نزل [18] من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان . فرأيت الكراهية في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - " [19] .
ورواه أيضا من حديث حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، فذكر مثله ، ولم يذكر الكراهية . فاستاء لها [20] النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني ساءه ذلك - فقال : " خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء " [21] . فبين [ النبي ] [22] [ ص: 514 ] - صلى الله عليه وسلم - أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة [23] ، ثم بعد ذلك ملك ، وليس فيه ذكر علي ؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه بل كانوا مختلفين ، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك .
وروى أبو داود أيضا من حديث ابن شهاب ، عن عمرو بن أبان ، عن جابر أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أري [24] الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر " . قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما المنوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه " [25] .
وروى أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة ، عن أشعث بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن سمرة بن جندب ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، رأيت كأن دلوا أدلي من السماء ، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها [26] فشرب شربا ضعيفا ، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها [27] فشرب حتى تضلع ، [ ص: 515 ] ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها [28] فشرب حتى تضلع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها [29] فانتشطت فانتضح عليه منها شيء [30] .
وعن سعيد بن جهمان ، عن سفينة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء " . أو [ قال ] [31] : " الملك " . قال سعيد : قال لي سفينة : [ أمسك ] ، مدة [32] أبي بكر سنتان [33] ، وعمر عشر ، وعثمان اثنتا عشرة [34] ، وعلي كذا . قال سعيد : قلت لسفينة : إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة . قال : كذبت أستاه بني الزرقاء ، يعني بني مروان [35] . و [ أمثال ] [ ص: 516 ] هذه [36] الأحاديث ونحوها مما يستدل بها من قال : إن خلافته ثبتت بالنص . والمقصود هنا أن كثيرا من أهل السنة يقولون [37] : إن خلافته ثبتت بالنص ، وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة . ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول : إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص ، فإن هؤلاء ليس معهم إلا مجرد الكذب والبهتان ، الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفا بأحوال الإسلام ، أو استدلال بألفاظ لا تدل على ذلك ، كحديث استخلافه في غزوة تبوك ونحوه مما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى .
فيقال لهذا : إن وجب أن يكون الخليفة منصوصا عليه ، كان القول بهذا النص أولى من القول بذاك [38] ، وإن لم يجب هذا ، بطل ذاك .
والتحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دل المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم [39] شك : هل [ ص: 517 ] ذلك القول من جهة المرض ، أو هو قول يجب اتباعه ؟ ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر [ رضي الله عنه ] [40] .
فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة ، لبينه النبي [41] - صلى الله عليه وسلم - بيانا قاطعا للعذر ، لكن لما دلتهم [42] دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين [43] وفهموا ذلك ، حصل المقصود ( * والأحكام يبينها - صلى الله عليه وسلم - تارة بصيغة عامة [44] وتارة بصيغة خاصة * ) [45] ولهذا قال عمر [ بن الخطاب ] [46] في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : " وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل [47] أبي بكر " رواه البخاري ومسلم [48] .
[ ص: 518 ] وفي الصحيحين [ أيضا ] [49] عنه أنه قال يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار : " أنت [50] خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [51] " ولم ينكر ذلك منهم منكر ، ولا قال أحد من الصحابة : إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلانه ، ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر [52] إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية [53] .
[ ص: 519 ] ولم يقل [ قط ] [54] أحد من الصحابة : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على غير أبي بكر - رضي الله عنه - [55] : لا على العباس ولا على علي ولا على [56] غيرهما ، ولا ادعى العباس ولا علي - [ ولا أحد ] [57] ممن يحبهما - الخلافة لواحد منهما ، ولا أنه منصوص عليه . بل ولا قال أحد من الصحابة : إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر : لا من بني هاشم ، ولا من غير بني هاشم [58] . وهذا كله مما يعلمه [59] العلماء العالمون [60] بالآثار والسنن والحديث ، وهو معلوم عندهم بالاضطرار .
وقد نقل عن بعض بني عبد مناف ، مثل أبي سفيان وخالد بن سعيد [61] ، أنهم أرادوا أن لا تكون الخلافة [ إلا ] [62] في بني عبد مناف ، [ ص: 520 ] وأنهم ذكروا ذلك لعثمان وعلي [63] فلم يلتفتا [64] إلى من قال ذلك ، لعلمهما وعلم سائر المسلمين أنه ليس في القوم مثل أبي بكر .
ففي الجملة جميع من نقل عنه من الأنصار وبني عبد مناف [65] أنه طلب تولية غير أبي بكر ، لم يذكر حجة دينية شرعية ، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحق وأفضل من أبي بكر ، وإنما نشأ كلامه عن حب لقومه وقبيلته ، وإرادة منه أن تكون الإمامة [66] في قبيلته .
ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلة الشرعية ولا الطرق الدينية ، ولا هو مما أمر الله [67] ورسوله المؤمنين باتباعه ، بل هو شعبة [68] جاهلية ، ونوع عصبية للأنساب [69] والقبائل . وهذا مما بعث الله محمدا [70] [ صلى الله عليه وسلم ] [71] بهجره وإبطاله .
وفي الصحيح عنه أنه [72] قال : " أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت ، والاستقاء بالنجوم " [73] .
[ ص: 521 ] وفي المسند عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أمه ولا تكنوا [74] " .
وفي السنن عنه أنه قال : " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس رجلان : مؤمن تقي ، وفاجر شقي " [75] .
وأما كون الخلافة في قريش ، فلما كان هذا من شرعه ودينه [76] ، كانت النصوص بذلك معروفة منقولة مأثورة يذكرها الصحابة . بخلاف [ ص: 522 ] كون الخلافة في بطن من قريش أو غير قريش ، فإنه لم ينقل أحد من الصحابة فيه نصا ، بل ولا قال أحد : إنه [ كان ] في قريش [77] من هو أحق بالخلافة في دين الله وشرعه من أبي بكر .
ومثل هذه الأمور كلما تدبرها العالم ، وتدبر [78] النصوص الثابتة وسير [79] الصحابة ، حصل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن قلبه أنه كان من الأمور المشهورة عند المسلمين أن أبا بكر مقدم على غيره ، وأنه كان عندهم أحق بخلافة النبوة ، وأن الأمر في ذلك بين ظاهر عندهم ، ليس فيه اشتباه عليهم ؛ ولهذا قال [ رسول الله ] [80] - صلى الله عليه وسلم - : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " .
ومعلوم أن هذا العلم الذي عندهم بفضله وتقدمه ، إنما استفادوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور سمعوها وعاينوها ، [ و ] حصل [81] بها لهم من العلم ما علموا [ به ] [82] أن الصديق أحق الأمة بخلافة نبيهم ، وأفضلهم عند نبيهم وأنه ليس فيهم من يشابهه حتى يحتاج في ذلك إلى مناظرة .
[ ص: 523 ] ولم يقل أحد من الصحابة قط [83] : إن عمر [ بن الخطاب ] [84] ، أو عثمان ، أو عليا ، [ أو غيرهم ] [85] أفضل من أبي بكر ، أو أحق بالخلافة منه . وكيف يقولون [86] ذلك ، وهم دائما يرون من تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر على غيره ، وتفضيله له ، وتخصيصه بالتعظيم ، ما قد ظهر للخاص والعام ؟ ! حتى أن أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين ، يعلمون أن لأبي بكر من الاختصاص ما ليس لغيره .
كما ذكره أبو سفيان بن حرب يوم أحد . قال : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ ثلاثا . ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ [ أفي القوم ابن أبي قحافة ] [87] ؟ ثم قال [88] أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ [ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ] [89] وكل ذلك يقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - [90] : " لا تجيبوه " أخرجاه في الصحيحين [91] كما سيأتي ذكره بتمامه إن شاء الله تعالى [92] .
[ ص: 524 ] حتى إني أعلم طائفة من حذاق المنافقين ممن يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رجلا عاقلا أقام الرياسة بعقله وحذقه ، يقولون : إن أبا بكر كان مباطنا له على ذلك يعلم أسراره على ذلك ، بخلاف عمر وعثمان وعلي .
فقد ظهر لعامة الخلائق أن أبا بكر [ رضي الله عنه ] [93] كان أخص الناس بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا النبي وهذا صديقه ، فإذا كان محمد أفضل النبيين فصديقه أفضل الصديقين .
فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسول [ الله صلى الله عليه وسلم ] له [94] بها ، وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختيارا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله ، وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله ، فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا .
ولكن النص دل على رضا الله ورسوله بها [95] ، وأنها حق ، وأن الله أمر بها وقدرها ، وأن المؤمنين يختارونها ، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها ؛ لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد .
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ، ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ، ورضا الله ورسوله بذلك ، كان ذلك دليلا على [ ص: 525 ] أن الصديق كان [96] فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ، ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة ، وأن [97] ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص .
كما قال [98] النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يكتب لأبي بكر ، [ فقال لعائشة : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " . أخرجاه في الصحيحين . وفي البخاري : " لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد ، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون " [99] .
فبين صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يكتب كتابا خوفا ، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه ، والأمة حديثة عهد بنبيها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، وأفضل قرون هذه الأمة ، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي ، فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم أو لسوء القصد ، وكلا الأمرين منتف ، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي ، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون ] [100] ؛ ولهذا قال [101] : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " ، فترك ذلك لعلمه بأن [ ظهور ] [102] [ ص: 526 ] فضيلة [ أبي بكر ] الصديق [103] واستحقاقه [104] لهذا الأمر يغني عن العهد فلا يحتاج إليه ، فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه ، وهذا أبلغ من العهد .


