( فصل ) 
وأما قوله عن الإمامية    : إنهم يقولون [1]  . 
فهذا ملبس [2]  . لا فائدة فيه . [3]  . [ فإن قول القائل : إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان   : أحدهما : أنه قادر على كل ممكن ، فإن كل ممكن هو مقدور ، بمعنى أنه يقدر القادر على فعله . 
 [ ص: 289 ] والثاني : أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، لا يقدر على ما ليس بمقدور له . 
والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا : هو قادر على كل مقدور ، فإنهم يقولون : إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان ، فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه ، لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه ، وهذا معنى قوله تعالى : ( إنه على كل شيء قدير   ) [ سورة فصلت : 39 ] . 
فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء . وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن : هل هو شيء أم لا ؟ 
فأما الممتنع ، فلم يقل أحد : إنه شيء ثابت في الخارج ، فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج ، مثل كون الشيء موجودا معدوما ، فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج ، وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله ، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين . 
والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور ، وعلى الممتنع لغيره : مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون ، فهذا لا يكون . 
وقد يقال : إنه يمتنع أن يكون ; لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه ، وخبره بخلاف مخبره ; لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه ، كما قال : ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه   ) [ سورة القيامة : 4 ] ، وقال تعالى : ( وإنا على ذهاب به لقادرون   ) [ سورة  [ ص: 290 ] المؤمنون : 18 ] ، وقال تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض   ) [ سورة الأنعام : 65 ] . 
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لما نزل قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم   ) ، قال : " أعوذ بوجهك " ، ( أو من تحت أرجلكم   ) ، قال : " أعوذ بوجهك " ، ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض   ) ، قال : " هاتان أهون " [4]  . . 
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها   ) [ سورة السجدة : 13 ] ، ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة   ) [ سورة هود : 118 ] ، ( ولو شاء الله ما اقتتلوا   ) [ سورة البقرة : 253 ] ، ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء   ) [ سورة سبأ : 9 ] [5]  . ، وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله ، فإن هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له . 
وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم : هل هو ممكن مقدور ، كإيمان  [ ص: 291 ] الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن ؟ والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع ، احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا . 
وجوابهم أن لفظ " الممتنع " مجمل ، يراد به الممتنع لنفسه ، ويراد به ما يمتنع لوجود غيره ، فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول . وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع ، وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان ، كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج . 
ومن الناس من يدعي أن الممتنع لذاته مقدور ، ومنهم من يدعي إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها . وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور ، أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة ، فيقع الاشتراك والاشتباه في اللفظ أو في المعنى . 
وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه : أنه على كل شيء قدير ، كما تقدم بيانه ، وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر . 
وأما القدرية   من الإمامية  والمعتزلة  وغيرهم ، فإذا قالوا : إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات ، وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، وأما نفس أفعال العباد - من الملائكة والجن والإنس - فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية  ، وإنما تنازعوا : هل يقدر على مثلها ؟ 
وإذا كان كذلك كان قولهم : إنه قادر على كل مقدور ، إنما [6]  . يتضمن  [ ص: 292 ] أنه قادر على كل ما هو مقدور له ، وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له . لكن غاية ما يقولون : إنه قادر على مثل مقدور العباد ، والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر . 
وبكل حال ، فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له ، كان هذا بمنزلة أن يقال : هو عالم بكل ما يعلمه ، وخالق لكل ما يخلقه ، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها ] [7]  . مثل أن يقول القائل : إنه فاعل لجميع المفعولات ، ومثل أن يقال : زيد عالم بكل [8]  . ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر [9]  . وفاعل لكل ما يفعله [10]  . . 
فإن [11]  . الشأن [12]  . في بيان المقدورات : هل هو على كل شيء قدير ؟ فمذهب [13]  . هؤلاء الإمامية  وشيوخهم القدرية  أنه ليس على كل شيء قديرا [14]  . ، وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ، ولا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يضل مهتديا ، ولا يقيم قاعدا باختياره ، ولا يقعد قائما باختياره ، ولا يجعل أحدا [ مسلما ] [15]  . مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ، ولا  [ ص: 293 ] يجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ، ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ، فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته ، وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها  [16]  . ، فظهر تمويههم بقولهم [ إن الله ] قادر [17]  . على جميع المقدورات . 
وأما أهل السنة فعندهم أن الله [ تعالى ] [18]  . على كل شيء قدير ، وكل ممكن فهو مندرج في هذا . 
وأما المحال لذاته ، مثل كون الشيء الواحد [ موجودا ] [19]  . معدوما ، فهذا لا حقيقة له ، ولا يتصور وجوده [20]  . ، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ، ومن هذا الباب : خلق مثل نفسه ، وأمثال ذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					