والجواب الثاني أن الذين قالوا : إن الله يرى [1] بلا مقابلة هم الذين قالوا : إن الله ليس فوق العالم ، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين . وهذا قول طائفة من الكلابية  والأشعرية   ، وليس هو قولهم كلهم [2] بل ولا قول أئمتهم ، بل أئمة القوم يقولون : إن الله بذاته فوق العرش ، ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه  [ ص: 343 ] لموافقته [3] المعتزلة  في نفي ذلك ونفي ملزوماته ، فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة  على حدوث العالم ، وهو أن الجسم لا يخلو عن ( * الحركة والسكون ، وما لا يخلو عنهما فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها . 
قالوا : فيلزم حدوث كل جسم ، فيمتنع أن يكون * ) [4] البارئ جسما ; لأنه قديم ، ويمتنع أن يكون في جهة ; لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم [5] ، فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي ; لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين [6]  . 
ولا ريب أن جمهور [7] العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون : إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة ؛ ولهذا يذكر الرازي  أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك . 
لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم : نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة ، فلا يلزم ما ذكرته [8] ، فإن أمكن رؤية المرئي [9] لا في جهة من الرائي صح قولنا ، وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين : إما في نفي [10] الرؤية وإما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم . 
 [ ص: 344 ] وإذا لزم الخطأ في إحداهما ، لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية ، بل يجوز [11] أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة ، وليست موافقتنا لك حجة [12] لك ، فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه ، بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة [13] وإجماع السلف ، مع دلالة العقل عليها   . 
وحينئذ فلازم الحق حق . ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه ، كان هذا [14] التناقض أهون من نفي الحق [15] ولوازمه . وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة ، فكان [16] قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا ، وقولنا أقرب من قولكم ، وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم [17] لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ( 8 أظهر ، وهذا بين ؛ فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة 8 ) [18] من إثبات الصفات والرؤية [19] وعلو الله متواتر [20] مستفيض . 
والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى  [ ص: 345 ] إجماع  [21] بل عارضوا برأيهم الفاسد [22] ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المهاجرين  والأنصار  والذين اتبعوهم بإحسان [23]  . 
وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون : إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه [24] ولا مباين له ، ولا يقرب من شيء ، ولا يقرب منه [25] شيء ، ولا يراه أحد ، ولا يحجب عن رؤيته [26] شيء دون شيء [27] ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل من عنده شيء ، إلى أمثال ذلك . 
وإذا قيل لهم [28]  : هذا مخالف للعقل ، وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده . 
قالوا : هذا النفي من حكم الوهم . 
فيقال لهم : إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكره . فإذا قيل مع ذلك : إنه يرى بلا مواجهة ، فإن قيل : هذا ممكن ، بطل قولهم . وإن قيل : هذا مما يمنعه العقل . قيل : منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا [29] أعظم . 
 [ ص: 346 ] فإن [30] قلتم : إنكار ذلك من حكم الوهم . 
قيل لكم : وإنكار هذا حينئذ [31] أولى أن يكون من حكم الوهم . 
وإن قلتم : بل [32] هذا الإنكار من حكم العقل . 
قيل لكم : وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى . 
فإنكم تقولون : حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس ، وحينئذ إذا قلتم : إن البارئ تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس [33] وهو امتناع الرؤية بدون [34] المقابلة . 
وإن قلتم : إنه محسوس أي يمكن الإحساس به لم يبطل [35] فيه حكم الوهم ، فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ، وحينئذ فيجوز [36] رؤيته . 
وإن قلتم : إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي . 
قيل : إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها  [ ص: 347 ] مثبتة الرؤية [37] بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة ، بل [38] هي رؤية لا نعلم صفتها ، كما أثبتم وجود موجود [39] لا نعلم صفته ، فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					