ويقال : ثالثا : المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة [ ص: 315 ] من أهل بيته وغيرهم من الصحابة [1]
، فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة ، وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فقال : " إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم ، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن [2]
، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم ، إنما فاطمة [3]
بضعة مني يريبني ما رابها ص : أرابها .
ويؤذيني ما آذاها [4]
" فلا يظن بعلي - رضي الله عنه - أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط ، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه .
وكذلك لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم الحديبية ، وقال لأصحابه : " انحروا واحلقوا رءوسكم " فلم يقم أحد ، فدخل مغضبا على أم سلمة ، فقالت : من أغضبك - أغضبه الله ؟ فقال : " ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع [5]
" فقالت : يا رسول الله ادع بهديك فانحره ، وأمر الحلاق فليحلق [6]
رأسك ، وأمر عليا أن يمحو اسمه . فقال : والله لا أمحوك . فأخذ الكتاب من يده ومحاه [7]
" فمعلوم [8]
[ ص: 316 ] أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا قال القائل : هذا ذنب ، كان جوابه كجواب القائل : إن عائشة أذنبت في ذلك ، فمن الناس من يتأول ويقول : إنما تأخروا متأولين ، لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة : وآخر يقول : لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل تابوا من ذلك التأخير
[9] ورجعوا عنه ، مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب ، وعلي داخل في هؤلاء - رضي الله عنهم - أجمعين .
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها : " تقاتلين عليا وأنت ظالمة له " [10]
فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا له إسناد معروف ، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة لم أجد هذا الحديث الموضوع .
، بل هو كذب قطعا ، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت لقصد
[11] الإصلاح بين المسلمين ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها .
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ، فندم طلحة والزبير وعلي - رضي الله عنهم - أجمعين ، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال [12]
، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم ، فإنه لما تراسل علي [ ص: 317 ] وطلحة والزبير ، وقصدوا الاتفاق على المصلحة ، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة ، وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه ، كما كان يحلف فيقول : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ، وهو الصادق البار في يمينه ، فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة ، فحملوا على عسكر طلحة والزبير ، فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم ، فحملوا [13]
دفعا عن أنفسهم ، فظن علي أنهم حملوا عليه ، فحمل دفعا عن نفسه ، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم ، وعائشة - رضي الله عنها - راكبة : لا قاتلت ، ولا أمرت بالقتال [14]
. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار [15]
.
وأما قوله [16] : " وخالفت أمر الله في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) [ سورة الأحزاب : 33 ] فهي - رضي الله عنها - لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى . والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج والعمرة ، أو خرجت مع زوجها في سفرة [17]
، فإن هذه الآية قد [18]
نزلت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سافر بهن [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] بعد [ ص: 318 ] ذلك [19]
[ كما سافر ] [20]
في حجة الوداع بعائشة [ - رضي الله عنها - ] وغيرها [21]
، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ، وأعمرها من التنعيم . وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه [22]
الآية ، ولهذا كان [23]
أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يحججن كما كن يحججن معه
[24] خلافة عمر - رضي الله عنه - وغيره [25]
، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف ، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين ، فتأولت في ذلك [26]
.
وهذا كما أن قول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ سورة النساء : 29 ] [ وقوله ] [27]
: ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ سورة النساء : 29 ] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم [28] .
بعضا ، كما في قوله : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ سورة الحجرات : 111 ] وقوله : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) [ سورة النور : 12 ] .
[ ص: 319 ] وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا " [29]
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . قيل : يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " كان حريصا على قتل صاحبه
[30] " .
فلو قال قائل : [ إن ] عليا [31]
ومن قاتله قد التقيا بسيفهما ، وقد استحلوا دماء المسلمين [32]
، فيجب أن يلحقهم الوعيد .
لكان جوابه [33]
: أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان [ ص: 320 ] مخطئا ، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ سورة البقرة : 286 ] قال [34]
: " قد فعلت [35]
" فقد عفي [36]
للمؤمنين [37] عن النسيان والخطأ ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه ، وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين ، فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى .
وأيضا فلو قال قائل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المدينة تنفي خبثها وينصع طيبها [38]
" وقال : " لا يخرج أحد من المدينة رغبة [ ص: 321 ] عنها إلا أبدلها الله خيرا منه " أخرجه في الموطأ الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه في : الموطأ 2 \ 887 ( كتاب الجامع ، باب الدعاء للمدينة وأهلها ) . وفي التعليق : " قال أبو عمر : وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة " .
. [ كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها طيبة ( يعني المدينة ) وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد " ، وفي لفظ : " تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " ] [39]
. وقال : إن عليا خرج عنها
[40] ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله ، ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة .
لكان الجواب : أن المجتهد إذا كان دون علي لم يتناوله الوعيد ، فعلي أولى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده ، وبهذا يجاب عن خروج عائشة - رضي الله عنها - . وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة .
وأما قوله : " إنها [41]
خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليا على غير ذنب " .
فهذا أولا : كذب عليها . فإنها لم تخرج لقصد القتال ، ولا كان أيضا [ ص: 322 ] طلحة والزبير قصدهما قتال علي أ ، ب : القتال لعلي ، ولو قدر أنهم قصدوا [42]
القتال ، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) [ سورة الحجرات : 9 ، 10 ] فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال . وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين [43]
فهم به أولى وأحرى .


