وأما قول الرافضي : " لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه " .
فالجواب : أن هذا من أعظم علمه ; فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده ، فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر ، وهو من لا ولد له ولا والد ، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه [ ص: 502 ] أجران ، كرأي الصديق ، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد .
وقد قال قيس بن عباد لعلي : أرأيت مسيرك هذا : ألعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأي رأيته ؟ فقال : بل رأي رأيته . رواه أبو داود وغيره [1] . .
فإذا كان مثل هذا الرأي الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل ، لا يمنع صاحبه أن يكون إماما ، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه .
وأما ما ذكره من قضائه في الجد [2] . بسبعين قضية ، فهذا كذب . وليس هو قول أبي بكر ، ولا نقل هذا عن [ أبي بكر ] [3] ، بل نقل هذا عن أبي [ ص: 503 ] بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ، ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ، ومع هذا هو باطل [4] ، عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة ، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة ، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم [5] . ، فعلم أن هذا كذب .
وأما مذهب أبي بكر في الجد ، فإنه جعله أبا ، وهو قول بضعة عشر من الصحابة ، وهو مذهب كثير من الفقهاء [ كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ، كأبي حفص البرمكي ، ويذكر رواية عن أحمد ] [6] . كما تقدم [7] . ، وهو أظهر القولين في الدليل .
ولهذا يقال : لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا ، بخلاف غيره من الصحابة ; فإن قوله [8] في الجد أظهر القولين ، والذين ورثوا الإخوة مع الجد ، وهم علي ، وزيد ، وابن مسعود ، وعمر ، في إحدى الروايتين عنه ، تفرقوا في ذلك . وجمهور الفقهاء على قول زيد ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد ، فالفقهاء في الجد : إما على قول أبي بكر ، وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر . ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد ، وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر ; فإن زيدا قاضي عمر ، مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد .
[ ص: 504 ] وعمر كان متوقفا في الجد ، وقال : " ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهن لنا : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا " [9] . .
وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه ، كما قال تعالى : ( أخرج أبويكم من الجنة ) [ سورة الأعراف : 27 ] ، وقوله : ( ملة أبيكم إبراهيم ) [ سورة الحج : 78 ] ، وقد قال : ( يابني إسرائيل ) ، ( يا بني آدم ) ، في غير موضع .
وإذا كان ابن الابن ابنا ، كان أبو الأب أبا ، ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع ; فإنه يسقط ولد الأم كالأب ، ويقدم على جميع العصبات ، سوى البنين كالأب ، ويأخذ مع الولد السدس كالأب ، ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب .
وأما في العمريتين زوج وأبوين ، وزوجة [10] وأبوين ; فإن الأم تأخذ ثلث الباقي ، والباقي للأب [11] . ، ولو كان معها [12] . جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود ; لأن الأم أقرب من الجد ، [ ص: 505 ] وإنما الجدة نظير الجد ، والأم تأخذ مع الأب الثلث ، والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس ، وهذا مما يقوى به الجد ; ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى .
وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام ، فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة ; لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ; ولأن الإخوة لو كانوا لكونهم بني الأب [13] . يشاركون الجد ، لكان بنو الإخوة كذلك ، كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ، ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد ، كان آباؤهم الإخوة كذلك ، وعكسه البنون : لما كان الجد يفرض له مع البنين ، فرض له مع بني البنين [14] . .
وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد ، حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع ، خرج منه غصنان ، فأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل ، وبنهر خرج منه نهر آخر ، ومنه جدولان ، فأحدهما إلى الآخر أقرب [15] . من الجدول إلى النهر الأول .
فمضمون هذه الحجة : أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد .
ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة ; فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ، ولكان العم أولى من جد الأب ، فإن نسبة الإخوة من الأب إلى [ ص: 506 ] الجد أبي الأب ، كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب ، فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام ، كان الجد الأدنى أولى من الإخوة .
وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة .
وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة ، لا دليل على شيء منها ، كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض ، فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال ، كما أن قوله دائما أصح الأقوال .


