[ ص: 82 ] فصل [1]
قال الرافضي [2] : " ولم يحد قدامة [3] في الخمر ، لأنه تلا عليه : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) [ سورة المائدة : 93 ] الآية ، فقال [ له ] [4] علي : ليس قدامة من أهل هذه الآية ، فلم يدر كم يحده ، فقال له أمير المؤمنين حده ثمانين ، إن شارب الخمر إذا شربها [5] [ سكر ، وإذا سكر ] [6] هذى ، وإذا هذى افترى " .
والجواب : أن هذا من الكذب [ البين ] [7] الظاهر على عمر - رضي الله عنه ؛ فإن علم ابن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل ، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله ، وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين ، وكان عمر أحيانا يعزر فيها بحلق الرأس والنفي ، وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد ، وتارة بالنعال والأيدي [ ص: 83 ] وأطراف الثياب ، وقد تنازع علماء المسلمين في الزائد عن الأربعين إلى الثمانين : هل هو حد يجب إقامته ؟ أو تعزير يختلف باختلاف الأحوال ؟ على قولين مشهورين ، هما روايتان عن أحمد ، أحدهما [8] : أنه [9] حد لأن أقل الحدود ثمانون ، وهو حد القذف ، وادعى أصحاب هذا القول أن الصحابة أجمعت على ذلك ، وأن ما نقل من الضرب أربعين كان بسوط له طرفان ، فكانت الأربعون قائمة مقام الثمانين ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما ، واختاره الخرقي والقاضي أبو يعلى وغيرهما .
والثاني : أن الزائد على الأربعين جائز ، فليس بحد واجب ، وهو قول الشافعي ، واختاره أبو بكر وأبو محمد [10] وغيرهما . وهذا القول أقوى ؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن علي - رضي الله عنه - أنه جلد الوليد أربعين ، وقال : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل [11] سنة ، وهذا أحب إلي [12] .
وفي الصحيحين عن أنس قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب الخمر ، فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، ثم أتي به أبو بكر ففعل به مثل ذلك ، ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود ، [ ص: 84 ] فقال ابن عوف : أخف الحدود ثمانون ، فضربه عمر [13] .
ولأنه يجوز الضرب فيه بغير السوط ، كالجريد والنعال والأيدي وأطراف الثياب ، فلما لم تكن صفة الضرب مقدرة [14] ، بل يرجع فيها إلى الاجتهاد ، فكذلك مقدار الضرب ، وهذا لأن أحوال الشاربين تختلف ، ولهذا أمر أولا بقتل الشارب في المرة الرابعة ، وقد قيل : إن هذا منسوخ ، وقيل : بل هو محكم ، وقيل : بل هو تعزير جائز يفعل عند الحاجة إليه ، وهذا لأن الضرب بالثوب ليس أمرا محدودا ، بل يختلف باختلاف قلته وكثرته ، وخفته وغلظته ، والنفوس قد لا تنتهي فيه عند مقدار ، فردت أكثر العقوبة [15] فيه إلى الاجتهاد ، وإن كان أقلها مقدرا ، كما أن [16] من التعزيرات ما يقدر أكثره ولا يقدر أقله .
وأما قصة قدامة فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني [ وغيره حديثه ] [17] عن ابن عباس [18] : أن قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فقال له عمر : ما يحملك [19] على ذلك ؟ فقال : إن الله يقول : ( ليس على الذين آمنوا [ ص: 85 ] وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية [ سورة المائدة : 93 ] وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد .
فقال عمر : أجيبوا الرجل ، فسكتوا عنه . فقال لابن عباس : أجبه ، فقال : إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم ، وأنزل : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) [ سورة المائدة : 90 ] حجة [20] على الناس . ثم سأل عمر عن الحد فيها ، فقال علي بن أبي طالب : إذا شرب هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلده ثمانين جلدة [21] ، فجلد عمر ثمانين . ففيه أن عليا أشار بالثمانين ، وفيه نظر .
فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان بن عفان ، لما جلد الوليد بن عقبة ، وأنه أضاف الثمانين إلى عمر ، وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين [22] ، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي ، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين ، فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين ، وروي عن علي أنه قال : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت ، فأجد في نفسي ، إلا صاحب الخمر ، [ فإنه ] لو مات [23] لوديته ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه لنا [24] .
[ ص: 86 ] وهذا لم يقل به أحد من الصحابة والفقهاء في الأربعين فما دونها ، ولا ينبغي أن يحمل كلام علي على ما يخالف الإجماع . وإنما تنازع الفقهاء [25] فيما إذا زاد على الأربعين فتلف : هل يضمن ؟ على قولين : فقال جمهورهم : لا يضمن أيضا ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم . وقال الشافعي : يضمنه إما بنصف الدية في أحد القولين جعلا له قد تلف بفعل مضمن وغير مضمن [26] ، وإما أن تقسط الدية على عدد الضربات كلها ، فيجب من الدية [27] بقدر الزيادة على الأربعين في القول الآخر .
والشافعي بنى هذا على أن الزيادة تعزير غير مقدر ، ومن أصله أن من مات بعقوبة غير مقدرة ضمن ، لأنه بالتلف يتبين عدوان المعزر ، كما إذا ضرب الرجل امرأته ، والمؤدب الصبي ، والرائض الدابة .
وأما الجمهور فمنهم من يخالفه في الأصلين ، ومنهم من يخالفه في أحدهما ، فأبو حنيفة ومالك يقولان : الثمانون حد واجب ، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى يقول [28] : كل من تلف بعقوبة جائزة ، فالحق قتله ، سواء كانت واجبة أو مباحة ، وسواء كانت مقدرة أو غير مقدرة إذا لم يتعد ، وعلى هذا لا يضمن عنده سراية القود في الطرف وإن لم يكن واجبا ، وقد اتفق الأئمة على أنه إذا تلف في عقوبة [ ص: 87 ] مقدرة واجبة لا يضمن ، كالجلد في الزنا ، والقطع في السرقة . وتنازعوا في غير ذلك ، فمنهم من يقول : يضمن في الجائز ولا يضمن في الواجب ، كقول أبي حنيفة ، فإنه يقول : يضمن سراية القود ولا يضمن سراية التعزير لحق الله - تعالى - . ومنهم من يقول : يضمن غير المقدر ، ولا يضمن في المقدر ، سواء كان واجبا أو جائزا [29] كقول الشافعي . ومنهم من يقول : لا يضمن لا في هذا ولا في هذا ، كقول مالك وأحمد وغيرهما .


