وأما قوله [1] : " الخلاف الثاني : الواقع في مرضه [2] : أنه قال جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه . فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز [3] ، وقال قوم : قد اشتد مرضه ، ولا يسع [4] قلوبنا المفارقة " .
فالجواب [5] : " أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : " لعن الله من تخلف عنه " ولا نقل هذا بإسناد ثبت ، بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ، ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج ، بل كان أسامة [ ص: 319 ] هو الذي توقف في الخروج ، لما خاف أن يموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : كيف أذهب وأنت هكذا ، أسأل عنك الركبان ؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقام . ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعه ، ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه ، وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه .
وأبو بكر - رضي الله عنه - لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم ، لكن روي أن عمر كان فيهم ، وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه ، فأذن له ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : والله لا أحل راية عقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر - رضي الله عنه - في أول خلافته ولم يكن في شيء من ذلك نزاع مستقر أصلا [6] .
والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين . ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول [ ص: 320 ] الكبار ، لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام ، وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات ، وتلك فيها أكاذيب كثيرة [7] من جنس ما في التواريخ .
ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر ، وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا . وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة ، وأعظم الناس تعمدا للكذب ، وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، والناس كلهم حاضرون ، ولو ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس من ولاه لأطاعوه ، وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله ، وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا .
ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلف عليا في الصلاة : هل كان يمكن أحدا أن يرده ؟ ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ؟ ولو قال لأصحابه : هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي ، هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ؟ .
ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس فيهم من يبغض عليا ، ولا من قتل علي أحدا من أقاربه .
وقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح في عشرة آلاف : سليم ألف ، ومزينة ألف ، وجهينة ألف ، وغفار ألف ، ونحو ذلك . والنبي - [ ص: 321 ] صلى الله عليه وسلم - يقول : " أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها " [8] ، ويقول : " قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالي دون الناس ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله " [9] .
وهؤلاء لم يقتل علي أحدا منهم ، ولا أحدا من الأنصار . وقد كان عمر - رضي الله عنه - أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من علي ، فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة . وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته ، أعظم من نفورهم عن علي ، حتى كره بعضهم تولية أبي بكر له ، وراجعوه لبغض النفوس للحق ، لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، فلم [ ص: 322 ] يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونص عليه ، وتقديم من يريد تأخيره وحرمانه .
ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما ، لقال للناس : لا تبايعوهما . فيا ليت شعري ممن كان يخاف الرسول ؟ فقد نصره الله وأعزه ، وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا .
وقد أنزل الله سورة براءة ، وكشف فيها حال المنافقين ، وعرفهم المسلمين ، وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته .
وأبو بكر وعمر كانا [10] أقرب الناس عنده ، وأكرم الناس عليه ، وأحبهم إليه ، وأخصهم به ، وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا ، وأعظمهم موافقة له ومحبة له ، وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه . فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين ؟ ، الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة .
بل قال الله تعالى : ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ) [ سورة الأحزاب : 60 ، 61 ] فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا .
هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه .


