[ ص: 449 ] فصل 
وهنا طرق [1] يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ، فإن كثيرا من الخاصة - فضلا عن العامة - يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره ، وإنما يعرف ذلك علماء الحديث [2] ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر . 
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله ، ولكن نحن نذكر طريقا آخر ، فنقول : نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يعلم من العقول [3] والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها . 
فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات ، والسير : أن  أبا بكر  رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة  ، لا بذل فيها ما يرغب [4] الناس به ، ولا شهر  [ ص: 450 ] عليهم سيفا يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موال [5] تنصره ، وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة [6] الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعوني ، بل أمر بمبايعة  عمر   وأبي عبيدة  ، ومن تخلف عن بيعته  كسعد بن عبادة  لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا ، وهذا [7] غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . 
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة  ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا  سعد بن عبادة   . 
وأما  علي  وسائر بني هاشم  فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه [8] ، لكن تخلف فإنه [9] كان يريد الإمرة [10] لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ، ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم [11] يقاتل  [ ص: 451 ] مسلمين ، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة ، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس  والروم  ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق  ، وخرج منها أزهد [12] مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم [13] بشيء ، ولا أمر له قرابة . 
ثم ولي عليهم  عمر بن الخطاب  ففتح الأمصار ، وقهر الكفار ، وأعز أهل الإيمان ، وأذل أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصر الأمصار للمسلمين ، وخرج منها أزهد [14] مما دخل فيها ، لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد . 
وأما  عثمان  فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم [15] ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة  عمر  ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطمع فيه بعض الطمع ، وتوسعوا في الدنيا ، ( وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ) [16] ، ودخلت [17] بسبب أقاربه في الولايات والأموال [18] أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة [19]  ( بعض ) [20] الناس في الدنيا ، وضعف  [ ص: 452 ] خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال - ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا . 
وتولى [21]  علي  على إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطخ [22] بدم  عثمان  ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه [23] الكاذبون عليه المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه [24] الغالون فيه المبغضون لغيره من الصحابة ، فإن  عليا  لم يعن على [25] قتل  عثمان  ولا رضي به ، كما ثبت عنه - وهو الصادق - أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يئول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقا ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو [26] أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف . 
وضعفت خلافة ( النبوة ) [27] ضعفا أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها  معاوية  ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور [28]  : " تكون نبوة ورحمة ، ثم  [ ص: 453 ] تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة [29] ، ثم يكون ملك  " [30]  . 
ولم يتول أحد من الملوك خيرا من  معاوية   فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ،  وعلي  آخر الخلفاء الراشدين الذين هم [31] ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من [32] أفضل أولياء الله المتقين ، [33] بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين  [34] ، لكن إذا جاء القادح فقال في  أبي بكر   وعمر   : إنهما كانا ظالمين متعديين [35] طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، ( وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ) [36] ، وإنهما - ومن أعانهما - ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية  [ ص: 454 ] الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما [37]  - كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها [38] حتى غلب ، وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن  عليا  لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ; لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة . 
وإذا كنا ندفع من يقدح في  علي  من الخوارج  ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في  أبي بكر   وعمر  بطريق الأولى والأحرى . 
وإن جاز أن يظن  بأبي بكر  أنه كان قاصدا للرئاسة [39] بالباطل مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل له مقصوده - أولى وأحرى . 
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد ، وشيخي مكان [40] ، أو مدرسي مدرسة - كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير . 
فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علوا في الأرض ولا فسادا ، فظن ذلك  بأبي بكر   وعمر  رضي الله عنهما أولى وأحرى . 
 [ ص: 455 ] وإن ظن ظان  بأبي بكر  أنه كان يريد العلو في الأرض والفساد ، فهذا الظن  بعلي  أجدر وأولى . 
أما أن يقال : إن  أبا بكر  كان يريد العلو في الأرض والفساد ،  وعلي  لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين - فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة  أبي بكر  أفضل . 
ولهذا كان الذين ادعوا هذا  لعلي  أحالوا على ما لم يعرف ، وقالوا : ثم نص على خلافته كتم ، وثم [41] عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها منع حقه . 
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة ، وأما ما يذكر [42] من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر . 
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا ؟ ! 
فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن  أبا بكر  كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من  عمر   وعثمان   وعلي  ، فضلا عن  علي  وحده ، [43] وأنه كان أولى [44] بإرادة وجه الله تعالى وصلاح [45] المسلمين من الثلاثة  [ ص: 456 ] بعده ، فضلا عن  علي  ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن [46] ولايته الأمة [47] خير من ولاية  علي  ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة  علي  ، رضي الله عنهم ( أجمعين ) [48]  . 
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل [49] ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد - كان هذا الاعتقاد  بأبي بكر   وعمر  أولى وأخلق وأحرى [50]  . 
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل  علي  ، ولما يقتضي أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها ، وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة - الذين هم أصدق وأكثر - لفضائل الصديق التي تقتضي أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه . 
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسني حجة من جنسها أولى منها ، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها . 
قال تعالى : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا   ) ( سورة الفرقان : 33 )  [ ص: 457 ] لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه . 
قال تعالى : ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن   ) ( سورة " المؤمنون " : 71 ) . 
وهنا طريق آخر ، وهو أن يقال : دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا [51] حصل الداعي إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل . 
فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق ، وذلك أنهم [52] خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة ، ولم يكن عند  الصديق  غرض دنيوي يقدمونه لأجله ، ولا عند  علي  غرض دنيوي يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا  عليا  ، وكانت الأنصار  لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم  أحب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم  ، وكذلك عامة قبائل قريش  لا سيما بنو عبد مناف  ، وبنو مخزوم  ، فإن طاعتهم لمنافي كانت أحب إليهم من طاعة تيمي لو اتبعوا الهوى ، وكان  أبو سفيان بن حرب  وأمثاله يختارون تقديم  علي   . 
وقد روي أن  أبا سفيان  طلب من  علي  أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما ، وقد قال أبو قحافة  ، لما قيل له : إن ابنك تولى ، قال : " أورضيت بذلك بنو عبد مناف  ، وبنو مخزوم  ؟ " قالوا : نعم ، فعجب من ذلك ، لعلمه  [ ص: 458 ] بأن بني تيم  كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش  كانت من تينك القبيلتين . 
وهذا ، وأمثاله مما ( إذا ) [53] تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا  أبا بكر  إلا لتقديم الله ورسوله ; لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ورسوله ، فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ،  وأبو بكر  كان أتقاهم . 
وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، [54] ثم الذين يلونهم [55] ، وهذه الأمة هي خير الأمم ، كما دل عليها الكتاب والسنة . 
وأيضا فإنه [56] من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية  ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيرا وأفضل من أهل هذا الزمان ، وأن [57] الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر ، فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ; لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ ! . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					