وأما قول الرافضي : " يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه " . 
والجواب : أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها . 
أحدها : أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته ، فبطل هذا . 
الثاني : أنه قد علم بالتواتر أن  أبا بكر  كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم   - مؤمنا به ، من أعظم الخلق اختصاصا به ، أعظم مما تواتر  [ ص: 434 ] من شجاعة عنترة ، ومن سخاء حاتم ، ومن موالاة علي ومحبته له ، ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد . 
والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد ، ومن الرافضة  من ينكر كون  أبي بكر   وعمر  مدفونين في الحجرة النبوية ، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار .  وليس هذا من بهتانهم ببعيد ، فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته [1] بالاضطرار ، ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات . 
ولهذا قال من قال : لو قيل : من أجهل الناس ؟ لقيل : الرافضة  حتى فرضها بعض الفقهاء \ مسألة فقهية : فيما إذا أوصى [2] لأجهل الناس ؛ قال : هم الرافضة  ، لكن هذه الوصية باطلة ؛ فإن الوصية باطلة ، فإن الوصية والوقف لا يكونان [3] معصية ، بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع . والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل [4] الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق ، فهو كما لو أوصى لأكفر الناس ، أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق ، فإن هذا لا يصح . 
وكون  أبي بكر  كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره ؛ أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون : إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي - صلى  [ ص: 435 ] الله عليه وسلم -  وأبو بكر  وثالثهما  عمر  ؛ لكن لم يكن  عمر  مطلعا على سرهما كله ، كما وقعت دعوة الإسماعيلية  الباطنية والقرامطة  ، فكان [5] كل من كان أقرب إلى إمامهم [ كان ] [6] أعلم بباطن الدعوة ، وأكتم لباطنها من غيره . 
ولهذا جعلوهم مراتب : فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن  أبا بكر  أعظم موالاة واختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره  ، جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ، ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره . 
فمن قال : إنه كان في الباطن عدوه [7] ، كان من أعظم أهل الأرض فرية ، ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في  علي  ، وقيل [ له ] له زيادة في ( م ) . : إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته ؛ فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو ؛ طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ، ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا ، وكان مراده إهلاك الباقين ؛ لكن عجز ؛ وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة  والإسماعيلية  والنصيرية  ، فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة  أبي بكر   وعمر   . 
 [ ص: 436 ] فالشبهة في دعوى موالاة  علي  للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة  أبي بكر  وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار ؛ لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في  أبي بكر  أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق  علي  ؛ فإذا كانت الحجة على موالاة  علي  صحيحة ، والحجة على معاداته باطلة ، فالحجة على موالاة  أبي بكر  أولى بالصحة ، والحجة على معاداته أولى بالبطلان . 
الوجه الثالث : أن قوله : " استصحبه حذرا من أن يظهر أمره " . 
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع ، فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة  ظاهر عرفه أهل مكة   ، وأرسلوا الطلب  ، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج ، وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه ، وفي  أبي بكر  بذلوا الدية لمن يأتي  بأبي بكر  ؛ فأي شيء كان يخاف ؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي  بأبي بكر  دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك . 
الرابع : أنه إذا كان خرج ليلا ، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد ، فما يصنع  بأبي بكر  واستصحابه [8] معه ؟ . 
فإن قيل : فلعله علم خروجه دون غيره ؟ . 
قيل : أولا : قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به ، كما ن : لا يشعر به بخروجه كما ، [9] خرج  [ ص: 437 ] في وقت لم يشعر به المشركون ، وكان يمكنه أن [ لا ] يعينه [10]  . 
فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن  أبا بكر  استأذنه في الهجرة ، فلم يأذن له حتى هاجر معه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة [11] 
ففي الصحيحين عن  البراء بن عازب  قال : جاء  أبو بكر  إلى  أبي  في منزله فاشترى منه رحلا ، فقال لعازب  [12]  : ابعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج  أبي  معه ينتقد ثمنه ؛ فقال  أبي   : يا  أبا بكر  حدثني كيف صنعتما ليلة سريت [13] مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم سرينا ليلتنا كلها ، ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق ، فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت [14] لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد ، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه [ النبي ] النبي : [15]  - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ، ثم بسطت عليه فروة [16] ، ثم قلت : نم يا رسول الله ، وأنا أنفض لك ما حولك [17] ، فنام رسول الله  [ ص: 438 ]  - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ، وخرجت أنفض ما حوله ، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة ، يريد منها الذي أردنا فلقيته ؛ فقلت : لمن [18]  . أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من أهل المدينة    - يريد مكة  [19]  - لرجل من قريش  سماه فعرفته فقلت له : أفي غنمك لبن ؟ فقال : نعم ، قلت : أفتحلب لي ؟ قال : نعم فأخذ شاة ؛ فقلت [ له ] [20] انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى ، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن ، قال : ومعي إداوة [21] أرتوي فيها [22] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - [23] منها ويتوضأ ، قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله ؛ فقلت : يا رسول الله اشرب من هذا اللبن ، فشرب حتى رضيت ، ثم قال : " ألم يأن للرحيل ؟ " قلت : بلى ، فارتحلنا بعد ما زالت [24] الشمس ، واتبعنا سراقة بن مالك  ، قال : ونحن في جلد من الأرض [25] فقلت :  [ ص: 439 ] يا رسول الله : أتينا [26] ، فقال : لا تحزن إن الله معنا  ، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه إلى بطنها ، فقال : إني قد علمت أنكما دعوتما علي ، فادعوا الله لي ، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما هنا ، ولا يلقى أحدا إلا رده ، وقال [27]  : خذ سهما من كنانتي فإنك تمر بإبلي وغلماني ، فخذ منها حاجتك فقال : " لا حاجة لي في إبلك " قال : فقدمنا المدينة ، فتنازعوا أيهم ينزل عليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنزل على بني النجار  أخوال عبد المطلب  ؛ أكرمهم بذلك " ؛ فصعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق [28] ينادون : يا محمد  ، يا رسول الله ، يا محمد  ، يا رسول الله [29]  " . 
وروى  البخاري  عن  عائشة  ، قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار : بكرة وعشية ؛ فلما ابتلي المسلمون خرج  أبو بكر  مهاجرا  [ ص: 440 ] إلى الحبشة  حتى إذا بلغ برك الغماد  [30] لقيه ابن الدغنة  [31]  . وهو سيد القارة [32] فقال : أين تريد يا  أبا بكر  ؟ قال : أخرجني قومي ، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي ، قال ابن الدغنة   : إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق [33] ، وأنا لك جار ، فاعبد [34] ربك ببلدك [35] ، فارتحل ابن الدغنة  فرجع مع  أبي بكر  [36] ، فطاف في أشراف كفار قريش  فقال لهم : إن  أبا بكر  لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ، ويحمل الكل ويقري الضيف ،  [ ص: 441 ] ويعين على نوائب الحق ، فأنفذت [37] قريش  جوار ابن الدغنة  ، وآمنوا  أبا بكر  وقالوا لابن الدغنة   : مر  أبا بكر  فليعبد ربه في داره ، فليصل وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا [38] بذلك ، ولا يستعلن به ، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ، فقال ذلك ابن الدغنة   لأبي بكر  ، فطفق  أبو بكر  يعبد ربه في داره ولا يستعلن [39] بالصلاة والقراءة في غير داره . ثم بدا  لأبي بكر  فابتنى بفناء داره مسجدا ، وبرز فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن فتنقصف [40] عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، [ وهم ] يعجبون [ منه ] وينظرون إليه [41] ، وكان  أبو بكر   - رضي الله عنه - رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش  ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة  فقدم عليهم ؛ فقالوا : إنا كنا [ قد ] [42] أجرنا [43]  أبا بكر  على أن يعبد ربه في داره ، وإنه جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن بالصلاة والقراءة ، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإلا فإن أبى [44] إلا أن يعلن ذلك ، فسله  [ ص: 442 ] أن يرد إليك جوارك ؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك [45] ، ولسنا مقرين  لأبي بكر  الاستعلان . قالت  عائشة   : فأتى ابن الدغنة   أبا بكر  ؛ فقال : قد علمت الذي عقدت لك عليه ؛ فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترد إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت [46] في رجل عقدت له ، قال  أبو بكر   : إني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله [47] ، ورسول الله يومئذ بمكة  ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد أريت [48] دار هجرتكم : ذات نخل ، بين لابتين - وهما الحرتان - [49] فهاجر من هاجر إلى المدينة  ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة  إلى المدينة  ، وتجهز  أبو بكر  قبل المدينة  فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " على رسلك [50] ، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال " نعم " فحبس أبو بكر نفسه [51] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو  [ ص: 443 ] الخبط [52] أربعة أشهر ، قال  ابن شهاب   : قال  عروة  [53]  : قالت  عائشة  [54]  : فبينما نحن يوما جلوس في بيت  أبي بكر  في نحر الظهيرة ، قال قائل  لأبي بكر  [55]  : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا [56] في ساعة لم يكن يأتينا فيها ؛ فقال  أبو بكر   : فداه أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر . قالت : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -  لأبي بكر   : " أخرج من عندك " فقال  أبو بكر   : إنما هم أهلك بأبي أنت [57] يا رسول الله قال : " فإني قد أذن لي في الخروج " قال  أبو بكر   : الصحابة [58] يا رسول الله ، قال : نعم ، قال  أبو بكر   : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بالثمن " قالت عائشة :  [ ص: 444 ] فجهزناهما أحث [59] الجهاز ، وصنعنا [60] لهما سفرة في جراب [61] ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فربطت به [62] على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين ، قالت : ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [  وأبو بكر   ] [63] بغار في جبل ثور فمكثا [64] فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر  ، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج [65] من عندهما بسحر ، فيصبح مع [66] قريش  بمكة  كبائت ، ولا يسمع أمرا يكادان به [67] إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة  مولى  أبي بكر  منحة ) [68] من غنم ، فيريحها [69] عليهما  [ ص: 445 ] حين تذهب ساعة من الليل ، فيبيتان في رسل [70] ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما [71] حتى ينعق بها [72] عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [  وأبو بكر   ] [73] رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت : الماهر بالهداية [74] [75] [76] في آل العاص بن وائل السهمي  ، وهو على دين كفار قريش  ، فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه [77] غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث ، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل  " قال  ابن شهاب   : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي  ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم  أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم  يقول : " جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  [ ص: 446 ]  وأبي بكر  دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج  إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة  إني قد رأيت آنفا أسودة [78] بالساحل : أراها محمدا  وأصحابه ، قال سراقة   : فعرفت أنهم هم ، فقلت [ له ] [79]  : إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا [80] ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي ، وأخذت رمحي ، ثم خرجت به من ظهر البيت ، فحططت بزجة الأرض وخفضت عاليه [81] حتى أتيت فرسي فركبتها ، فرفعتها تقرب بي [82] حتى دنوت منهم ، فعثرت فرسي ، فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي ، فاستخرجت منها الأزلام ، فاستقسمت بها [83]  : أضرهم  [ ص: 447 ] أرده فآخذ المائة ناقة أم لا ؟ فخرج الذي أكره [84] ، فركبت [ فرسي ] [85]  - وعصيت الأزلام - تقرب [ بي ] حتى [ إذا ] سمعت [86] قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت ،  وأبو بكر  يكثر الالتفات ، ساخت [87] يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها [88] غبار [89] ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان فوقفوا ؛ فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر [90] رسول الله - صلى الله عليه وسلم [91]  " . 
الوجه الخامس : أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر   ، وكان معهما عامر بن فهيرة  كما تقدم ذلك ، فكان يمكنه أن  [ ص: 448 ] يعلمهم بخبره . 
السادس : أنه إذا كان كذلك ، والعدو [92] قد جاء إلى الغار ، ومشوا فوقه ، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار ، وينذر العدو به ، وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو ؛ فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه ؛ فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا [93] عند الغار ، وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه ، وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة  ، ليس بمكة  من يخافونه إذا أخذوه ؛ فإن كان  أبو بكر  معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما ، والقدرة تامة ، وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل ؛ فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي ، أو انتفاء القدرة ، والقدرة موجودة ؛ فعلم انتفاء الداعي وأن  أبا بكر  لم يكن له غرض في أذاه ، كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه . 
ومن هؤلاء المفترين من يقول : إن  أبا بكر  كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم [94] على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلدغته حية [95] فردها حتى كفت عنه الألم ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن نكثت نكث يدك ، وإنه نكث بعد ذلك ، فمات منها ، وهذا يظهر كذبه من وجوه نبهنا على بعضها . 
 [ ص: 449 ] ومنهم من قال : أظهر كعبه ليشعروا به ، فلدغته الحية ، وهذا من نمط الذي قبله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					