هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو  الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت   ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم .      [ ص: 691 ] ألا ترى إلى أن  الخوارج   كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم :  
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم  ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام :  إن الله لا يقبض العلم انتزاعا  إلى آخره .  
وقد وقع   لابن عباس  تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرج  أبو عبيد  في فضائل القرآن ، و   سعيد بن منصور  في تفسيره عن  إبراهيم التميمي   قال :  خلا  عمر  ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى   ابن عباس  ـ رضي الله عنهما ـ فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد  سعيد  وكتابها واحد ـ قال ، فقال   ابن عباس     : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإن كان لهم فيه رأي اختلفوا ، وقال  سعيد     : فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال  سعيد  فيكون لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره  عمر  وانتهره  علي  فانصرف   ابن عباس  ، ونظر  عمر  فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف  عمر  قوله وأعجبه     .  
 [ ص: 692 ] وما قاله   ابن عباس  ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها . فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا .  
ومما يوضح ذلك ما خرجه  ابن وهب  عن  بكير  أنه سأل  نافعا     : كيف رأي   ابن عمر  في  الحرورية   ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر   سعيد بن جبير  من ذلك ، فقال : مما يتبع  الحرورية   من المتشابه قول الله تعالى :  ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون   ويقرنون معها :  ثم الذين كفروا بربهم يعدلون   فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت ، لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس  ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه .  
وقال  نافع     :  إن   ابن عمر  كان إذا سئل عن  الحرورية    ؟ قال : يكفرون      [ ص: 693 ] المسلمين ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، وينكحون النساء في عددهن ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج ، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم     . فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم فيه في واسطة بين طرفين . فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما . فلم تفعل . بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال . ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير ، وهو الاختلاف في الفروع .  
فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا . أما الجهة الأخرى ، فإن عدم ذكرهم في هذه الأمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول ، وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة . ولا أخبر الشارع به . ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها . كذلك لا نقول : اختلفت الأمة أو افترقت الأمة بعد اتفاقها . أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام . وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة . إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة . ولذلك  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في  الخوارج      : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية  ثم قال :  وتتمارى في الفوق  وفي رواية :  
فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم      [ ص: 694 ] شيء  والتماري في الفوق فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة ؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا .  
وقد  اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى      . ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم . والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ، ألا ترى إلى صنع  علي  ـ رضي الله عنه ـ في  الخوارج   ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى :  وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما   ، فإنه لما اجتمعت  الحرورية   وفارقت الجماعة لم يهيجهم  علي  ولا قاتلهم ، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام :  
من بدل دينه فاقتلوه ،  ولأن  أبا بكر  ـ رضي الله عنه ـ خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم  ، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين .  
وأيضا ، فحين ظهر   معبد الجهني  وغيره من  أهل القدر   لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين .   وعمر بن عبد العزيز  أيضا لما خرج في زمانه  الحرورية   بالموصل   أمر بالكف عنهم على حد ما أمر به  علي  ـ رضي الله عنه ـ ، ولم يعاملهم      [ ص: 695 ] معاملة المرتدين     .  
ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون للهوى ، ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا ، إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا ، وهو كفر . وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها ، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله ، لا يقال : أنه صاحب هوى بإطلاق . بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة .  
وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة من مطلب واحد ، وهو الانتساب إلى الشريعة . ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة . وإنما وقع اختلافهم في الطريق ، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟  
وأيضا ، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده ، كما رجع من  الحرورية   الخارجين على  علي  ـ رضي الله عنه ـ ألفان ، وإن كان الغالب عدم الرجوع ، كما تقدم في أن المبتدع      [ ص: 696 ]  [ ص: 698 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب يا  علي     : هذا ما صالح عليه  محمد   رسول الله فقال  أبو سفيان   وسهيل بن عمرو     : ما نعلم أنك رسول الله ، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك . قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك ، يا  علي  اكتب : هذا ما اصطلح عليه  محمد بن عبد الله   وأبو سفيان   وسهيل بن عمرو  قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					