المسألة الثالثة :  
إن  هذه الفرقة يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا      .  
فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق ، وليس ذلك إلا لكفر ، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور .  
ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة ، كقوله تعالى :  إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء   وهي آية نزلت - عند المفسرين - في أهل البدع ، ويوضحه من قرأ :  إن الذين فرقوا دينهم   والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه ، وقوله :  فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم   الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع ، وهذا كالنص ، إلى غير ذلك من الآيات .  
وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام :  لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض   [ ص: 706 ] وهذا نص في كفر من قيل ذلك فيه ، وفسره  الحسن  بما تقدم في قوله  
ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا  الحديث ،  وقوله عليه الصلاة والسلام في  الخوارج      :  
دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء - وهو القدح - ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم  فانظر إلى قوله : من الفرث والدم فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء .  
وفي رواية  أبي ذر     - رضي الله عنه - :  
سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شر الخلق والخليقة  إلى غير ذلك من الأحاديث، إنما هي في قوم بأعيانهم ، فلا حجة فيها على غيرهم ، لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء ، كما استدلوا بالآيات .  
 [ ص: 707 ] وأيضا ، فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة .  
فإن قيل : الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة ، والقياس لا يجري فيها . فالجواب : إن كلامنا في الأحكام الدنيوية ، وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا ؟ وإنما أمر الآخرة لله ، لقوله تعالى :  إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون      .  
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة ، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله .  
ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل ، فلا فائدة في الإعادة .  
ويحتمل وجها ثالثا ، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ، ومنهم من لم يفارقه ، بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه ، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح .  
ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة ، وبحسب كل بدعة ، إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك .  
 [ ص: 708 ] ولقد فصل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلا في هذه الفرق ، فقال :  ما كان من البدع راجعا إلى اعتقاد وجود إله مع الله   ، كقول  السبئية   في  علي     - رضي الله عنه - أنه إله، أو خلق الإله في بعض أشخاص الناس كقول  الجناحية      : إن الله تعالى له روح يحل في بعض بني  آدم   ، ويتوارث، أو إنكار رسالة  محمد   صلى الله عليه وسلم كقول  الغرابية      : إن  جبريل    غلط في الرسالة فأداها إلى  محمد   صلى الله عليه وسلم ،  وعلي  كان صاحبها، أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات ، وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلاة من  الشيعة   ، مما لا يختلف المسلمون في التكفير به ، وما سوى ذلك من المقالات فلا يبعد أن يكون معتقدها غير كافر .  
واستدل على ذلك بأمور كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول أن الكفر بالمآل ، ليس بكفر في الحال، كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار ويرمي مخالفه به، [ ولو ] تبين له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال .  
وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات .  
أما ما صح منه فلا دليل على شيء ، لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق الخاصة . وأما على رواية من قال في حديثه :  
كلها في النار إلا واحدة  فإنما      [ ص: 709 ] يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه ، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا ، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة ، وإن تباينا في التخليد وعدمه .  
				
						
						
