فصل  
ومنها :  انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف   ، وطلب الأخذ بها تأويلا :  
كما أخبر الله تعالى في كتابه ـ إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي بقوله :  فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله      .  
وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة ، حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه ، ويشترط في ذلك أن لا      [ ص: 305 ] يعارضه أصل قطعي ، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك ، أو عارضه قطعي ؛ كظهور تشبيه ؛ فليس بدليل ؛ لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا في نفسه ، ودالا على غيره ، وإلا ؛ احتيج إلى دليل عليه ، فإن دل الدليل على عدم صحته ؛ فأحرى أن لا يكون دليلا .  
ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية ؛ لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملا ؛ فهي في محل التوقف ، وإن اقتضت عملا ؛ فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم .  
ويتأول الجزئيات حتى ترجع إلى الكليات ، فمن عكس الأمر ؛ حاول شططا ، ودخل في حكم الذم ؛ لأن متبع الشبهات مذموم ، فكيف يعتد بالمتشابهات دليلا ؟ أو يبنى عليها حكم من الأحكام ؟ وإذا لم تكن دليلا في نفس الأمر ؛ فجعلها دليلا بدعة محدثة هو الحق .  
ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب ـ المنزه عن النقائص ـ ؛ من العين ، واليد ، والرجل ، والوجه ، والمحسوسات ، والجهة . . . . . . وغير ذلك من الثابت للمحدثات .  
ومن الأمثلة أيضا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق ؛ تعلقا بالمتشابه ، والمتشابه الذي تعلقوا به على وجهين : عقلي ـ في زعمهم ـ وسمعي .  
 [ ص: 306 ] فالعقلي : أن صفة الكلام من جملة الصفات ، وذات الله عندهم برئية من التركيب جملة ، وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات ، وهو محال ؛ لأنه واحد على الإطلاق ، فلا يمكن أن يكون متكلما بكلام قائم به ، كما لا يكون قادرا بقدرة قائمة به ، أو عالما بعلم قائم به . . . . إلى سائر الصفات .  
وأيضا ؛ فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف ، وكل ذلك من صفات المحدثات ، والباري منزه عنها .  
وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويل قوله سبحانه :  وكلم الله موسى تكليما   ، وأشباهه .  
وأما السمعي ؛ فنحو قوله تعالى :  الله خالق كل شيء   ، والقرآن إما أن يكون شيئا ، أو لا شيء ، ولا شيء عدم ، والقرآن ثابت ، هذا خلف ، وإن كان شيئا ؛ فقد شملته الآية ، فهو إذا مخلوق ، وبهذا استدل   المريسي  على  عبد العزيز المكي  رحمه الله .  
وهاتان الشبهتان أخذ في التعلق بالمتشابهات ؛ فإنهم قاسوا الباري على البرية ، ولم يعقلوا ما وراء ذلك ، فتركوا معاني الخطاب وقاعدة العقول .  
أما تركهم للقاعدة ؛ فلم ينظروا في قوله تعالى :  ليس كمثله شيء   ، وهذه الآية نقلية لا عقلية ؛ لأن المشابه للمخلوق في وجه ما      [ ص: 307 ] مخلوق مثله ، إذ ما وجب للشيء ؛ وجب لمثله ، فكما تكون الآية دليلا على المشبهة ؛ تكون دليلا لهؤلاء ؛ لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق ، حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضي التركيب في الذات .  
وأما ( تركهم ) لمعاني الخطاب ؛ فإن العرب لا تفهم من قوله : السميع البصير ، و السميع العليم ، أو القدير ، . . . . . وما أشبه ذلك إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف بها ، فإخراجها عن حقائق معانيها التي نزل القرآن بها خروج عن أم الكتاب إلى اتباع ما تشابه منه من غير حاجة .  
وحيث ردوا هذه الصفات إلى الأحوال التي هي العالمية والقادرية ، فما ألزموه في العلم والقدرة لازم لهم في العالمية والقادرية ؛ لأنها إما موجودة ؛ فيلزم التركيب ، أو معدومة ؛ والعدم نفي محض .  
وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف ؛ فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي ، وهو مذكور في الأصول .  
وأما الشبهة السمعية ؛ فكأنها عندهم بالتبع ؛ لأن العقول عندهم هي المعتمدة ؛ ولكنهم يلزمهم بذلك الدليل مثل ما فروا منه ؛ لأن قوله :  الله خالق كل شيء   ، إما أن يكون على عمومه لا يتخلف عنه شيء ، أو لا ، فإن كان على عمومه ؛ فتخصيصه إما بغير دليل ؛ وهو التحكم ، وإما بدليل ؛ فأبرزوه حتى ننظر فيه ، ويلزم مثله في الإرادة إن ردوا الكلام إليها ، وكذلك      [ ص: 308 ] غيرها من الصفات إن أقروا بها ، أو الأحوال إن أنكروها ، وهذا الكلام معهم بحسب الوقت .  
والذي يليق بالمسألة أنواع أخر من الأدلة التي تقتضي كون هذا المذهب بدعة لا يلائم قواعد الشرع .  
ومن أغرب ما يوضع هاهنا ما حكاه  المسعودي  وذكره   الآجري  ـ في كتاب الشريعة ـ بأبسط مما ذكره  المسعودي  ، واللفظ هنا  للمسعودي  مع إصلاح بعض الألفاظ ، قال :  
" ذكر   صالح بن علي الهاشمي  ؛ قال : حضرت يوما من الأيام جلوس  المهتدي  للمظالم ، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته ، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص ، فإذا رفع طرفه إلي ؛ أطرقت .  
فكأنه علم ما في نفسي ، فقال لي : يا صالح ! أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره ، قال : فقلت : نعم يا أمير المؤمنين ! .  
فأمسك ، فلما فرغ من جلوسه ؛ أمر أن لا أبرح ، ونهض ، فجلست جلوسا طويلا ، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة ، فقال لي : يا  صالح     ! أتحدثني بما في نفسك أم أحدثك ؟ فقلت : بل هو من أمير المؤمنين أحسن . فقال : كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا ، فقلت : أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من  القول بخلق القرآن      ! .  
فقال : قد كنت على ذلك برهة من الدهر ، حتى قدم على  الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث  من ( أذنة ) من الثغر الشامي مقيدا ، طوالا ،      [ ص: 309 ] حسن الشيبة ، فسلم غير هائب ، ودعا فأوجز ، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني  الواثق  والرحمة عليه .  
فقال : يا شيخ ! أجب   أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد  عما يسألك عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين !  أحمد  يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة .  
فرأيت  الواثق  وقد صار مكان الرحمة غضبا ، فقال :  أبو عبد الله  يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك ؟ ! فقال : هون عليك يا أمير المؤمنين ! أتأذن لي في كلامه ؟ فقال له  الواثق     : قد أذنت ذلك .  
فأقبل الشيخ على  أحمد  ، فقال : يا  أحمد     ! إلام دعوت الناس ؟ فقال  أحمد     : إلى القول بخلق القرآن ، فقال له الشيخ : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن ؛ أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها ؟ قال : نعم ، قال الشيخ : فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم ؟ ، قال : لا . قال له : يعلمها أم لم يعلمها ؟ قال : علمها ، قال : فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وتركهم منه ؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ! هذه واحدة .  
ثم قال له : أخبرني يا  أحمد     ! قال الله تعالى في كتابه العزيز :  اليوم أكملت لكم دينكم   ، فقلت أنت : الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن ، فالله تعالى عز وجل أصدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك ؟ ! فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ! وهذه ثانية ! .  
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا  أحمد     ! ، قال الله عز وجل :      [ ص: 310 ] ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته   ، فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أم لا ؟ فأمسك ، فقال ( الشيخ ) : يا أمير المؤمنين ! ، وهذه ثالثة ! .  
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا  أحمد     ! . لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها ؛ اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا ؟ قال  أحمد     : بل اتسع له ذلك . فقال الشيخ : وكذلك  لأبي بكر  ، وكذلك  لعمر  ، وكذلك  لعثمان  ، وكذلك  لعلي  ، رحمة الله عليهم ؟ قال : نعم .  
فصرف وجهه إلى  الواثق  ، وقال : يا أمير المؤمنين ! إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه ولأصحابه ؛ فلا وسع الله علينا ، قال  الواثق     : نعم ؛ لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه .  
ثم قال  الواثق     : اقطعوا قيوده . فلما فكت ؛ جاذب عليها . فقال  الواثق     : دعوه . ثم قال : يا شيخ ! لم جاذبت عليها ؟ قال : لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها ، فإذا أخذتها ؛ أوصيت أن تجعل بين يدي وكفني حتى أقول : يا ربي ! سل عبدك : لم قيدني ظلما وارتاع في أهلي ؟ فبكى  الواثق  وبكى الشيخ وكل من حضر .  
ثم قال له  الواثق     : يا شيخ ! اجعلني في حل . فقال : يا أمير المؤمنين ! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقرابتك منه .  
فتهلل وجه  الواثق  ، وسر ، ثم قال له : أقم عندي آنس بك ، فقال له :      [ ص: 311 ] مكاني في ذلك الثغر أنفع ، وأنا شيخ كبير ، ولي حاجة . قال : سل ما بدا لك . قال : يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم . قال : قد أذنت لك . وأمر له بجائزة ، فلم يقبلها .  
فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة ، وأحسب أيضا أن  الواثق  رجع عنها .  
فتأملوا هذه الحكاية ، ففيها عبرة لأولي الألباب ، وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .  
ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض ؛ فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببينها . . . . إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام ؛ فذلك الذي نظمت به حين استنبطت .  
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي ، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا ( حتى ) يستنطق فلا ينطق ؛ لا باليد وحدها ، ولا بالرجل وحدها ، ولا بالرأس وحده ، ولا باللسان وحده ، بل بجملته التي سمي بها إنسانا .  
كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها ، لا من دليل منها أي دليل كان ، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك      [ ص: 312 ] الدليل ؛ فإنما هو توهمي لا حقيقي ؛ كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة ؛ من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان ؛ لأنه محال .  
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة .  
وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفوا وأخذا أوليا ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي ، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا ، فمتبعه متبع متشابه ، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ، كما شهد الله به ،  ومن أصدق من الله حديثا   ؟ .  
				
						
						
