وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع ، كالمكوس ، والمحدثة من المظالم ، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية ، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة ، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة ، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام . . . وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح ؛ فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها ، وشاعت وذاعت ؛ فلحقت بالبدع ، وصارت كالعبادات المخترعة  [ ص: 562 ] الجارية في الأمة ، وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا ، وإليه مال  القرافي  وشيخه  ابن عبد السلام  ، وذهب إليه بعض السلف .  
فروى  أبو نعيم الحافظ  ، عن   محمد بن أسلم  أنه ولد له ولد ـ قال  محمد بن القاسم الطوسي  ـ فقال لي : اشتر كبشين عظيمين ، ودفع إلي دراهم ، فاشتريت له ، وأعطاني عشرة أخرى ، وقال لي : اشتر بها دقيقا ولا تنخله واخبزه ، قال : فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال : اشتر به دقيقا ولا تنخله واخبزه . فخبزته وحملته إليه ، فقال لي : يا  أبا عبد الله  العقيقة سنة ، ونخل الدقيق بدعة ، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة ، ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة     .  
 ومحمد بن أسلم  هذا هو الذي فسر به الحديث   إسحاق ابن راهويه  حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة والسلام :  
عليكم بالسواد الأعظم  فقال :   محمد بن أسلم  وأصحابه ، حسبما يأتي ـ إن شاء الله ـ في موضعه من هذا الكتاب .  
- وأيضا ، فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية ، فكلاهما مشروع من قبل الشارع ، فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر .  
ووجه ثالث ، وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر      [ ص: 563 ] الزمان هي خارجة عن سنته ، فتدخل فيما تقدم تمثيله ، لأنها من جنس واحد .  
ففي الصحيح عن  عبد الله  ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم  ، وعن   ابن عباس  ـ رضي الله عنهما ـ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  
من كره من أميره شيئا فليصبر  
وفي رواية  من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات ، مات ميتة جاهلية     .  
وفي الصحيح أيضا :  
إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة     .  
وعن   أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، ويلقى الشح ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج . قال : يا رسول الله ! أيما هو ؟ قال : القتل القتل     .  
وعن  أبي موسى  ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :  
إن بين يدي الساعة      [ ص: 564 ] لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج ، والهرج القتل     .  
وعن  حذيفة  ـ رضي الله عنه ـ . قال :  حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر . حدثنا : أن الأمانة نزلت في جدر قلوب الرجال ، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها ثم قال : ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ، ثم ينام النومة فتقبض ، فيبقى أثرها مثل أثر المجل ، كجمر دحرجته على رجلك فنفض فتراه ينتثر وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة . فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا . ويقال للرجل : ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان  الحديث .  
وعن   أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  
لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان ، يكون بينهما مقتلة عظيمة : دعوتهما واحدة ، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه رسول ، وحتى يقبض العلم ، ثم قال : وحتى يتطاول الناس في البنيان  إلى آخر الحديث .  
 [ ص: 565 ] وعن  عبد الله  ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  
تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يقولون من قول خير البرية ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .  
ومن حديث   أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ أنه عليه الصلاة والسلام قال :  بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا  
، وفسر ذلك  الحسن  قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ، ويمسي مستحلا له ، كأنه تأوله على الحديث الآخر .  
لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض  ، والله أعلم .  
وعن   أنس بن مالك  ـ رضي الله عنه ـ قال :  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ، ويشرب الخمر ، وتكثر النساء ، ويقل الرجال ، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد     .  
 [ ص: 566 ] ومن غريب حديث   علي بن أبي طالب  ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  
إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا صار المغنم دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ، وبر صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها . فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء ، وزلزلة وخسفا ، أو مسخا وقذفا     .  
وفي الباب عن   أبي هريرة  ـ رضي الله عنه ـ قريب من هذا .  
وفيه :  ساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم  وفيه :  ظهرت القيان والمعازف  ، وفي آخره :  فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء ، وزلزلة ، وخسفا ، ومسخا ، وقذفا ، وآيات تتابع ، كنظام بال قطع سلكه فتتابع     .  
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها ،      [ ص: 567 ] فلما عوضوا منها غيرها ، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا ، كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات .  
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع الأولون .  
أما ما تقدم عن  القرافي  وشيخه ، فقد مر الجواب عنه ، فإنها معاص في الجملة ، ومخالفات للمشروع ، كالمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء . . . وغير ذلك .  
والمباح منها كالمناخل ، إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع فيه . وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه   محمد بن أسلم  ـ فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات ، إذ في الأمر : أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل ـ أو كما قال ـ فأخذ بظاهر اللفظ من أخذ به ،   كمحمد بن أسلم     .  
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى :  أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا   الآية ، لا من جهة أنه بدعة .  
وقولهم : كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلم ، وليس كلامنا في الجواز العقلي ، وإنما الكلام في الوقوع ، وفيه      [ ص: 568 ] النزاع .  
- وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد ، إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات ، أو ما يشير إلى ذلك المعنى .  
- وأيضا إن عدوا كل  محدث العادات   بدعة ، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعا ، وهذا شنيع ، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم ، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم ، هذا من المستنكر جدا .  
نعم ؛ لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكتاب والسنة .  
- وأيضا ، فقد يكون التزام الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والأحوال ، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثم معارض .  
وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها ( بالنسبة ) إلى متقدم الزمان ، فإن الخير كان أظهر ، والشر كان أخفى وأقل ، بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس ، والشر فيه أظهر والخير أخفى وأقل .  
وأما كون تلك الأشياء بدعا ؛ فغير مفهوم على الطريقتين في حد      [ ص: 569 ] البدعة ، فراجع النظر فيها تجده كذلك .  
والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين ، وتحقق المقصود في الطريقتين ، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب ، فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					