[ ص: 100 ] ومن تدبر حال اليهود  والنصارى  مع المسلمين ، وجد اليهود  والنصارى  متقابلين هؤلاء في طرف ضلال ، وهؤلاء في طرف يقابله ، والمسلمون هم الوسط . 
وذلك في التوحيد ، والأنبياء ، والشرائع ، والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك . 
فاليهود  يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق  التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم : إنه فقير ، وإنه بخيل ، وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض ، والنصارى  يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل ، كقولهم إن المسيح  هو الله ، وابن الله . 
وكل من القولين يستلزم الآخر . 
والنصارى أيضا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها ،  ويسبون الله سبا ما سبه إياه أحد من البشر ، كما كان  معاذ بن جبل  يقول : لا ترحموهم فإنهم قد سبوا الله سبة ما سبه  [ ص: 101 ] إياها أحد من البشر . 
واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه ،  كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة أو ينافي العلم والحكمة . 
والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله ،  فيحللوا ما حرم ، كما حللوا الخنزير ، وغيره من الخبائث ، بل لم يحرموا شيئا ، ويحرمون ما حلل ، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها ، وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله ، ويسقطون ما أوجب كما أسقطوا الختان وغيره ، وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل ، وإزالة النجاسة وغير ذلك . 
ويوجبون ما أسقط ، كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه . 
والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال ، ونزهوه عن النقص ، وأن يكون له مثل ، فوصفوه بما وصف به نفسه ، وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل  ، مع  [ ص: 102 ] علمهم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . 
وقالوا : ألا له الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره ، بل الدين كله له ، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو ، ولا طاعة لأحد إلا طاعته ، وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه ، وليس لغيره أن ينسخ شرعه . 
واليهود  بالغوا في اجتناب النجاسات ، وتحريم الطيبات ، والنصارى  استحلوا الخبائث ، وملابسة النجاسات ، والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافا لليهود ،  وحرم عليهم الخبائث ، خلافا للنصارى   .  
واليهود  يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم والنصارى  يدعون أنهم يطهرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم ، والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعا . 
والنصارى  لهم عبادات وأخلاق ، بلا علم ومعرفة ولا ذكاء ، واليهود  لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة . 
والمسلمون جمعوا بين العلم النافع ، والعمل الصالح ، بين الزكا والذكاء ، فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق  ، فالهدى  [ ص: 103 ] يتضمن العلم النافع ، ودين الحق يتضمن العمل الصالح ليظهره على الدين كله ، والظهور يكون بالعلم واللسان ليبين أنه حق وهدى ، ويكون باليد والسلاح ليكون منصورا مؤيدا ، والله أظهره هذا الظهور فهم أهل الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ، ولا يعملون به ، كاليهود ،  ولا الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم كالنصارى   . 
واليهود  قتلوا النبيين ، والذين يأمرون بالقسط من الناس ، والنصارى  اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم   . 
والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ، ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد من رسله وآمنوا بجميع النبيين ، وبكل كتاب أنزله الله فلم يكذبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم ، وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم . 
واليهود  يغضبون لأنفسهم وينتقمون ، والنصارى  لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون . 
والمسلمون المعتدلون المتبعون لنبيهم يغضبون لربهم ويعفون عن حظوظهم كما في الصحيحين عن  عائشة   - رضي الله عنها - أنها  [ ص: 104 ] قالت : ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده خادما له ،  ولا امرأة ولا شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه ، إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله  . 
وفي الصحيحين عن  أنس بن مالك   - رضي الله عنه - ، قال : خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما قال لي : أف قط ، وما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لم تفعله ؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول : 
" دعوه فلو قضي شيء لكان " . 
 [ ص: 105 ] هذا في حق نفسه ، وأما في حدود الله ، ففي الصحيحين عن  عائشة   - رضي الله عنها - : 
 ( أن قريشا  أهمهم شأن المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( فقالوا من يجترئ عليه إلا  أسامة بن زيد  حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فكلمه فيها  أسامة  ، فقال : يا  أسامة ،  أتشفع في حد من حدود الله ، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدود ، والذي نفسي بيده لو أن  فاطمة بنت محمد  سرقت لقطعت يدها )  . 
وقد وصف الله أمة محمد   - صلى الله عليه وسلم - بأنهم أنفع الأمم للخلق ، فقال : 
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون   . 
 [ ص: 106 ] ففي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -  من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ما لم يوجد مثله في الأمتين   . 
				
						
						
