[ ص: 1228 ] البدع .  
ثم اعلم أن  البدع كلها مردودة ، ليس منها شيء مقبولا   ، وكلها قبيحة ، ليس فيها حسن ، وكلها ضلال ليس فيها هدى ، وكلها أوزار ليس فيها أجر ، وكلها باطل ليس فيها حق .  
ومعنى البدعة      : هو شرع ما لم يأذن الله به ، ولم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم البدعة بقوله :  كل عمل ليس عليه أمرنا     .  
ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله : هم الجماعة ، وفي رواية : هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي .  
ثم  البدع بحسب إخلالها بالدين   قسمان :  
مكفرة لمنتحلها ، وغير مكفرة .  
فضابط البدعة المكفرة      : من أنكر أمرا مجمعا عليه متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة من جحود مفروض ، أو فرض ما لم يفرض ، أو إحلال محرم ، أو تحريم حلال ، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله وكتابه عنه من نفي أو إثبات ; لأن ذلك تكذيب بالكتاب ، وبما أرسل الله به رسله صلى الله عليهم وسلم كبدعة  الجهمية   في إنكار صفات الله والقول بخلق القرآن ، أو خلق أي صفة من صفات الله ، وإنكار أن يكون الله تعالى اتخذإبراهيم   خليلا ، وكلم  موسى   تكليما وغير ذلك ، وكبدعة  القدرية   في إنكار علم الله عز وجل وأفعاله ، وقضائه وقدره ، وكبدعة  المجسمة   الذين يشبهون الله تعالى بخلقه ، وغير ذلك من الأهواء .  
 [ ص: 1229 ] ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين ، وتشكيك أهله فيه ، فهذا مقطوع بكفره ، بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له ، وآخرون مغرورون ملبس عليهم ، فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم وإلزامهم بها .  
والقسم الثاني من  البدع التي ليست بمكفرة      : وهي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب ولا بشيء مما أرسل الله به رسله ، كبدع  المروانية   التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة ، ولم يقروهم عليها ، ولم يكفروهم بشيء منها ، ولم ينزعوا يدا من بيعتهم لأجلها ، كتأخيرهم بعض الصلوات إلى أواخر أوقاتها ، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد ، وجلوسهم في نفس الخطبة في الجمعة وغيرها ، وسبهم كبار الصحابة على المنابر ، ونحو ذلك مما لم يكن منهم على اعتقاد شرعيته ، بل بنوع تأويل ، وشهوات نفسانية وأغراض دنيوية .  
كما روى   الإمام أحمد   والترمذي  وحسنه عن   أبي عمران الجوني  قال :  سمعت   أنس بن مالك     - رضي الله عنه - يقول : ما أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قلنا : فأين الصلاة ؟ قال : أولم تصنعوا في الصلاة ما قد علمتم ؟     .  
وله عن   ثابت البناني  بإسناد نير قال :  قال   أنس بن مالك     - رضي الله عنه : ما أعرف فيكم اليوم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس قولكم : لا إله إلا الله ، قال قلت : يا  أبا حمزة  الصلاة ؟ قال : قد صليت حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟     .  
وفي الصحيحين عن   أبي سعيد الخدري     - رضي الله عنه - قال :  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى في المصلى ، فأول شيء يبدأ به      [ ص: 1230 ] الصلاة ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه ، أو يأمر بشيء أمر به ، ثم ينصرف     .  قال  أبو سعيد     : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع  مروان  ، وهو أمير  المدينة   في الأضحى أو الفطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه  كثير بن الصلت  ، فإذا  مروان  يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي ، فجبذت بثوبه ، فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله ، فقال : يا  أبا سعيد  ، قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة     .  
وفي رواية  مسلم     : فلما رأيت ذلك منه قلت : أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال : يا  أبا سعيد  ، قد ترك ما تعلم ، قلت : كلا والذي نفسي بيده ، لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرات ثم انصرف .  
وروى  أحمد  ،  وأبو داود  ،   وابن ماجه  ،  عن  أبي سعيد     - رضي الله عنه - أيضا قال : أخرج  مروان  المنبر في يوم عيد ، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا  مروان  ، خالفت السنة ، أخرجت المنبر في يوم عيد ، ولم يكن يخرج فيه ، وبدأت الخطبة قبل الصلاة ، ولم يكن يبدأ بها . فقال   أبو سعيد الخدري     : من هذا ؟ قالوا : فلان بن فلان ، فقال : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان     .  
 [ ص: 1231 ] قلت : والمرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح  مسلم  ، ولعل تغير هذا الرجل على  مروان  كان تارة أخرى في غير المرة التي غير فيها  أبو سعيد  بيده ولسانه ; لأن تغيير  أبي سعيد  كان عند أول ما ابتدع ذلك ابتداء ، والله أعلم .  
وفي صحيح  مسلم  عن   جابر بن سمرة     - رضي الله عنه -  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائما  ، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا ، فقد كذب ، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة     .  
وفيه  عن   كعب بن عجرة     - رضي الله عنه - قال : دخل المسجد ،  وعبد الرحمن بن أم الحكم  يخطب قاعدا ، فقال : انظر إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا ، وقال الله تعالى :  وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما      ( الجمعة 11 ) .  
وفيه عن  عمار بن رويبة  قال :  رؤي   بشر بن مروان  على المنبر رافعا يديه ، فقال : قبح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بأصبعه المسبحة     .  
وتقدم في فضائل الصحابة نصيحة   سعد بن أبي وقاص  ،   وسهل بن سعد  وغيرهم من الصحابة وعظته إياهم عن سب الصحابة .  
وعن  عامر بن سعد  رأى جماعة عكوفا على رجل ، فأدخل رأسه من بين اثنين ، فإذا هو يسب  عليا  وطلحة  والزبير  ، فنهاه عن ذلك ، فلم ينته ، فقال : أدعو عليك ، فقال الرجل : تتعهدني كأنك نبي ، فانصرف  سعد  ، فدخل دار آل فلان فتوضأ ، وصلى ركعتين ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله اليوم آية وعبرة .  
قال : فخرجت بختية نادرة من دار آل فلان ، فلا يردها شيء حتى دخلت بين      [ ص: 1232 ] أضعاف الناس ، فافترق الناس ، فأخذته بين قوائمها ، فلم تزل تتخبطه حتى مات ، قال : فلقد رأيت الناس يستعدون وراء  سعد  يقولون : استجاب الله دعاءك يا  أبا إسحاق     .  
وعن  مصعب  نحوه ، وروى   حماد بن سلمة  ، عن   علي بن زيد  ، عن   سعيد بن المسيب  نحوه .  
وغير ذلك من إنكار الصحابة عليهم ، وكان الصحابة - رضي الله عنه - لا يخافون في الله لومة لائم ، رضي الله عنهم وأرضاهم آمين .  
فصل .  
ثم تنقسم البدع بحسب ما تقع فيه إلى :  
بدعة في العبادات .  
وبدعة في المعاملات      .  
فالبدع في العبادات   قسمان أيضا :  
الأول : التعبد بما لم يأذن الله تعالى أن يعبد به البتة ، كتعبد جهلة  الصوفية   بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء ، وأنواع المعازف ، وغيرها مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم :  وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية      ( الأنفال 35 ) .  
والثاني : التعبد بما أصله مشروع ، ولكن وضع في غير موضعه : ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة ، فإذا فعله غير المحرم في الصوم ، أو في الصلاة ، أو غيرها بنية التعبد ، كان بدعة محرمة ، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما شرعت فيه ، كصلوات النفل في أوقات النهي ، وكصيام الشك والعيدين ، ونحو ذلك ، وفي الصحيح عن  أنس  في الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين ابنيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه     .  
 [ ص: 1233 ] وفيه عن   ابن عباس  رضي الله عنهما  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف  بالكعبة   بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه ، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، ثم أمره أن يقوده بيده     .  
وفيه عنه - رضي الله عنه - قال :  بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا :  أبو إسرائيل  ، نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مره ، فليتكلم وليستظل وليقعد ، وليتم صومه     . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الصوم الذي هو عبادة مشروعة وضعت في محلها ، وإلغاء قيامه وسكوته ; لكونه وإن كان عبادة في بعض الأحوال ، لكن ليس هذا محله ، وأمره بالاستظلال ; لكون عدمه ليس بعبادة مشروعة .  
وفيه  عن  عبد الله بن عمر  رضي الله عنهما سئل عن  رجل نذر ألا يأتي عليه يوم إلا صام ، فوافق يوم الأضحى أو الفطر   ، فقال :  لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة      ( الأحزاب 21 )  لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ، ولا يرى صيامهما     .  
وعن  زياد بن جبر  قال :  كنت مع   ابن عمر  رضي الله عنهما فسأله رجل ، فقال : نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت ، فوافقت هذا اليوم يوم النحر ، فقال : أمر الله بوفاء النذر ،  ونهينا أن نصوم يوم النحر  ، فأعاد فأعاد عليه ، فقال : مثله لا يزيد عليه     .  
 [ ص: 1234 ] والمعنى أن النذر قربة من القربات إذا كان مشروعا ، كصوم ما لم ينه عنه من الأيام ، فإن نذر صوم يوم منهي عنه كان ناذرا معصية لا طاعة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :  لا نذر في معصية الله  ، وقال صلى الله عليه وسلم :  من نذر أن يعصي الله فلا يعصه     .  
وعن  عطاء  أن   ابن عباس  رضي الله عنهما أرسل إلى  ابن الزبير  في أول ما بويع له : إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر ، وإنما الخطبة بعد الصلاة     .  
قال : ذلك ردا لبدعة  المروانية   في ذلك .  
وفيه عن   البراء بن عازب  قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :  إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك ، فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر قبل الصلاة ، فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء     . الحديث .  
وفيه عن   أنس بن مالك     - رضي الله عنه - قال :  جاء ثلاثة رهط إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا ، فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني     .  
 [ ص: 1235 ] وقال صلى الله عليه وسلم :  ليس من البر الصيام في السفر     .  
وقال صلى الله عليه وسلم للذين صاموا بعد أمره بالإفطار : أولئك العصاة ، أولئك العصاة     . وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب ما لا يحصى ، وهذا مثال يدل على ما بعده .  
ثم  البدعة الواقعة في العبادة   ، تكون مبطلة للعبادة التي تقع فيها لمن صلى الرباعية خمسا ، أو الثلاثية أربعا ، أو الثنائية ثلاثا ، وما شابه ذلك .  
وقد تكون معصية ولا تبطل العمل الذي تقع فيه  كالوضوء أربعا أربعا      ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم  قال في الوضوء المشروع : فمن زاد على هذا ، فقد أساء وتعدى وظلم     . ولم يقل : فقد بطل وضوءه ، وكذا  قراءة القرآن راكعا أو ساجدا   منهي عنه شرعا ، ولا يبطل الصلاة .  
والبدعة في المعاملات      : كاشتراط ما ليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن  عائشة  رضي الله عنها - قالت :  جاءت   بريرة  رضي الله عنها فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ، فقالت  عائشة  رضي الله عنها : إن أحب أهلك أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت ، ويكون ولاؤك لي ، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ، فقالت : عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم ، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته ، فقال : خذيها فأعتقيها واشرطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق . فقالت  عائشة     : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فما بال رجال منكم      [ ص: 1236 ] يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، فقضاء الله حق ، وشرط الله أوثق . ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء ، إنما الولاء لمن أعتق     . وأمثاله كثيرة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					