[ ص: 1237 ] كل  ما وقع فيه الخلاف يحتكم فيه إلى الكتاب والسنة      .  
( وكل ما فيه الخلاف ) بين الصحابة فمن بعدهم ( نصب ) من فروع العبادات والمعاملات ( فرده ) أي المختلف فيه من ذلك ( إليهما ) أي إلى الكتاب والسنة ، ( قد وجب ) على المعتبر ، قال الله تبارك وتعالى :  ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله      ( النساء 59 ) والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه ، وإلى الرسول إلى سنته بعد انقطاع الوحي ، فما وافقهما قبل وما خالفهما رد على قائله كائنا من كان ، ( فالدين ) الإسلام وشرائعه ( إنما أتى ) حصل بيانه ( بالنقل ) عن الله ورسوله ( ليس ) هو ( بالأوهام ) من آحاد الأمة ( وحدس ) تخمين ( العقل ) قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرجح الخلائق عقلا ، وأولاهم بكل صواب :  إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله      ( النساء 105 ) الآيات ، ولم يقل بما رأيت .  
ويقول الله تعالى له :  ولا تقف ما ليس لك به علم      ( الإسراء 36 ) وقال تعالى له :  فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم      ( الزخرف 43 ) وأمثال هذا من الآيات ما لا يحصى .  
وتقدم في الأحاديث جملة واحدة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم لا يقول في التشريع إلا عن الله عز وجل ، ولهذا لم يجب  اليهود   في سؤالهم إياه عن الروح ، ولا  جابرا  في سؤاله عن ميراث الكلالة ، والمجادلة في سؤالها عن حكم الظهار حتى نزل عليه القرآن بتفصيل ذلك وبيانه ، وأمثال هذا كثيرة : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( الفرقان 33 )  وفي قصة  عمر     - رضي الله عنه - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قال : فعملت لذلك أعمالا     .  
 [ ص: 1238 ] وقال   عثمان بن حنيف     :  اتهموا الرأي في دينكم   ، لقد رأيتني يوم   أبي جندل  ، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته     .  
وقال   علي بن أبي طالب     - رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي ، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد  رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفه     .  
وأفتى  عمر  السائل الثقفي في المرأة التي حاضت بعد أن زارت البيت يوم النحر أن لا تنفر ، فقال له الثقفي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به ، فقام إليه  عمر  يضربه بالدرة ، ويقول له : لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟     .  
وكان   ابن مسعود  أفتى بأشياء فأخبره بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلافه ، فانطلق  عبد الله  إلى الذين أفتاهم فأخبرهم أنه ليس كذلك     .  
وقال   عمر بن عبد العزيز     : لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم     . والآثار في هذا عن الصحابة والتابعين لا تحصى .  
وقال   الشافعي  رحمه الله تعالى : أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس .  
وصح عنه أنه قال : لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .  
وقال رحمه الله : إذا وجدتم في كتابي      [ ص: 1239 ] خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت . وفي لفظ : فاضربوا بقولي عرض الحائط .  
وقال رحمه الله : إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي ، فخذوا بالسنة ، ودعوا قولي فإني أقول بها .  
وقال رحمه الله تعالى : كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي .  
وقال رحمه الله تعالى وروى حديثا فقال له رجل : تأخذ بهذا يا  أبا عبد الله  ؟ فقال : متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا ، فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب ، وأشار بيده على رءوسهم . وسأله رجل عن مسألة فأفتاه ، وقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا ، فقال الرجل : أتقول بهذا ؟ قال : أرأيت في وسطي زنارا ؟ أتراني خرجت من الكنيسة ؟ أقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي : أقول بهذا ! أروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به ! وفي لفظ : فارتعد   الشافعي  رحمه الله واصفر لونه وقال : ويحك ، أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به ، نعم على الرأس والعينين . وقال رحمه الله تعالى : ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه ، فمهما قلت من قول ، وأصلت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو قولي ، وجعل يردد هذا الكلام .  
وقال   الشافعي     - رحمه الله - أيضا : لم أسمع أحدا نسبته العامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه ، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا ،      [ ص: 1240 ] وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه .  
وقال  الربيع     : سألت   الشافعي  عن  الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام   ، وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة ، فقال : جائز ، وأحبه ، ولا أكرهه ; لثبوت السنة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم والأخبار عن غير واحد من الصحابة ، فقلت : وما حجتك فيه ؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ، ثم قال : أخبرنا   ابن عيينة  ، عن   عمرو بن دينار  ، عن  سالم  قال :  قال  عمر     - رضي الله عنه : من رمى الجمرة ، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب     . فقال  سالم     :  وقالت  عائشة  رضي الله عنها :  طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي     . وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع     .  
قال : وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم ، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك لغير شيء ، بل لرأي أنفسكم ، فالعلم إذا إليكم تأتون منه ما شئتم ، وتدعون ما شئتم ، وقال رحمه الله تعالى : من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته ، ومن خلط فتركها خالفته . صاحبي الذي لا أفارق الملازم الثابت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بعد ، والذي أفارق هو من لم يقل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرب .  
وقال رحمه الله تعالى في خطبة كتاب ( إبطال الاستحسان ) : الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله ، وكما ينبغي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن  محمدا   عبده ورسوله ، بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، فهدى بكتابه ثم على لسان رسوله ، ثم أنعم عليه ، وأقام الحجة على خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقال :  ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة      ( النحل 89 ) وقال تعالى :  وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم      ( النحل 44 ) وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :  وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا      ( الأحزاب 36 )      [ ص: 1241 ] فاعلم أن معصيته في ترك أمره وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ولم يجعل لهم إلا اتباعه ، وكذلك قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :  ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله      ( الشورى 52 53 ) مع ما علم نبيه ، ثم فرض اتباع كتابه فقال :  فاستمسك بالذي أوحي إليك      ( الزخرف 43 ) وقال :  وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم      ( المائدة 49 ) وأعلمهم أنه كمل لهم دينهم فقال عز وجل :  اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا      ( المائدة 3 ) . . . إلى أن قال : ثم من عليهم بما آتاهم من العلم ، فأمرهم بالاقتصار عليه ، وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم ، فقال لنبيه :  وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان      ( الشورى 52 ) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :  قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم      ( الأحقاف 9 ) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :  ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله      ( الكهف 23 ) ثم أنزل على نبيه أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ورضوانه عنه ، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :  ولا تقف ما ليس لك به علم      ( الإسراء 36 )  وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل في امرأة رجل رماها بالزنا ، فقال له يرجع ، فأوحى الله إليه آية اللعان ، فلاعن بينهما ، وقال :  قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله      ( النمل 65 ) وقال :  إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام      ( لقمان 34 ) الآية ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :  يسألونك عن الساعة أيان مرساها   فيم أنت من ذكراها      ( النازعات 42 ) فحجب عن نبيه علم الساعة ، وكان من عادى ملائكة الله المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد الله أقصر علما من ملائكته وأنبيائه ، والله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه ، ولم يجعل لهم من الأمر شيئا .  
وكلامه - رحمه الله تعالى في هذا الباب كثير مشهور مذكور .  
وهذا الذي قاله من تحكيم نصوص الكتاب والسنة ، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به ، وصرحت      [ ص: 1242 ] به نصوصهما ، وأجمع عليه الصحابة والتابعون ، فمن بعدهم ، كما حكي إجماعهم هو وغيره ، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال . ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا ، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرءوا منهم ، ومقتوهم أشد المقت ; فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه ، ولا اهتدوا إلى ما أرشدهم إليه ، بل اختلفوا اختلافا شديدا ، وافترقوا افتراقا بعيدا ، وكل منهم يحصر الحق في إمامه ، ويرى ما خالفه باطلا ، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا ، وإذا خالف مذهبه ضرب له الأمثال ، وتكلف له التأويل المحال ، ويقابله الآخر بمثل ذلك ، فهم بين راد ومردود ، وحاسد ومحسود ، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم :  من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون      ( الروم 32 ) ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب ، بل كانوا - رضي الله عنهم وأرضاهم - أجل شأنا ، وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله ، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه ، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال ، وهي أجل قدرا في صدورهم من أن تضرب لها الأمثال ، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال ، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم ، واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم ، وأحيا سنتهم في طلب الحق ، وأخذه أين وجده ، والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما بلغته ، فكما كان اجتهاد السلف - رحمهم الله - في جميع الأدلة ، واستنباط الأحكام منها ، فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات ، والأخذ بالأصح منها مع من كان ، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف ، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا ، إن أصابه فله أجران ، وإن أخطأه فله أجر ، والخطأ مغفور ، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم ، كلها تذم الرأي في الدين ، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان . ولم يدع أحد منهم إلى تقليده ، ولم يكن أحد منهم معصوما ، ولا ادعى في ذلك ، ولا قال : إن الحق معي لا يفارقني ، فتمسكوا بما أقول وأفعل ، ولا كان لأحد منهم التزام قول أحد من آحاد الأمة لا      [ ص: 1243 ] ممن هو مثلهم ، ولا من هو أفضل منهم ، فضلا عمن هو دونهم ، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره ، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه ، بل كان إمام الجميع  محمد   رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين للناس ما نزل إليهم ، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال ، والتقريرات يتلقونها من حفاظها من كانوا ، وأين كانوا ، وبيد من وجدوها ، وقفوا عندها ، ولم يعدوها إلى غيرها ، وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم ، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتوافق النصوص بعضها بعضا ، ويصدق بعضها بعضا ، فإنها كلها من عند الله ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض ، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره ، قال الله تعالى :  أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا      ( النساء : 82 ) .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					