الوجه العشرون      : أنه سبحانه أخبر عن الجهات التي تستقبلها الأمم منكرة مطلقة غير مضافة إليه ، وأن المستقبل لها هو موليها وجهه لا أن الله شرعها له وأمره بها ، ثم أمر أهل قبلته المبادرة والمسابقة إلى الخير الذي ادخره لهم وخصهم به ومن جملته هذه القبلة التي خصهم دون سائر الأمم فقال تعالى : (  ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات      ) إلى قوله : (  قدير      ) .  
فتأمل هذا السياق في ذكر الجهات المختلفة التي توليها الأمم وجوههم ، ونزل عليه قوله : (  ولله المشرق والمغرب      ) إلى قوله : (  واسع عليم      ) وانظر هل يلائم      [ ص: 416 ] السياق السياق والمعنى المعنى ويطابقه ، أم هما سياقان دل كل منهما على معنى غير المعنى الآخر ، فالألفاظ غير الألفاظ ، والمعنى غير المعنى .  
الوجه الحادي والعشرون : أنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله لكان قد أضاف إلى نفسه القبل كلها ، ومعلوم أن هذه إضافة تخصيص وتشريف إلى إلهيته ومحبته لا إضافة عامة إلى ربوبيته ومشيئته ، وما هذا شأنها لا يكون المضاف الخاص إلا كبيت الله وناقة الله وروح الله ، فإن البيوت والنوق والأرواح كلها لله ، ولكن المضاف إليه بعضها ، فقبلة الله منها هي قبلة بيته لا كل قبلة ، كما أن بيته هو البيت المخصوص لا كل بيت .  
الوجه الثاني والعشرون      : أن يقال : حمل الوجه في الآية على الجهة والقبلة ، إما أن يكون هو ظاهر الآية أو يكون خلاف ظاهرها ، ويكون المراد بالوجه وجه الله حقيقة ; لأن الوجه إنما يراد به الجهة والقبلة إذا جاء مطلقا غير مضاف إلى الله تعالى كما في حديث الاستسقاء ، فلم يقدم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود ، أم يكون ظاهر الآية الأمرين كليهما ولا تنافي بينهما ، فأينما ولى العبد وجهه في صلاة تولية مأمور بها فهو قبلة الله ، وثم وجه الله ، فهو مستقبل قبلته ووجهه ، أو تكون الآية مجملة محتملة للأمرين ، فإن كان الأول هو ظاهرها لم يكن حملها عليه مجازا ، وكان ذلك حقيقتها ، ومن يقول هذا يقول وجه الله في هذه الآية قبلته وجهته التي أمر باستقبالها بخلاف وجهه في قوله : (  ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام      ) وتلك النصوص التي ذكرناها وغاية ذلك أن يكون الوجه لفظا مشتركا قد استعمل في هذا تارة وفي هذا تارة ، فمن أين يلزم من ذلك أن يكون وجه الرب ذو الجلال والإكرام مجازا وأن لا يكون له وجه حقيقة ؟ لولا التلبيس والترويج بالباطل .  
وإن كان الثاني فالأمر ظاهر ، وإن كان الثالث فلا تنافي بين الأمرين ، فأينما ولى المصلي فهي قبلة الله وهو مستقبل وجه ربه ; لأنه واسع والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه تعالى والله مقبل على كل مصل إلى وجهه من الجهات المأمور بها بوجهه ، كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله : (  إذا قام      [ ص: 417 ] أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ، فإن الله قبل وجهه     ) وفي لفظ : "  فإن ربه بينه وبين القبلة     " .  
وقد أخبر أنه  حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله   ، فإنه قد دل العقل والفطرة وجميع كتب الله السماوية على أن الله تعالى عال على خلقه فوق جميع المخلوقات ، وهو مستو على عرشه ، وعرشه فوق السماوات كلها ، فهو سبحانه محيط بالعوالم كلها ، فأينما ولى العبد فإن الله مستقبله ، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه ، والمركز يستقبل وجه المحيط ، وإذا كان عالي المخلوقات المحيط يستقبل سافلها المحاط به بوجهه من جميع الجهات والجوانب ، فكيف بشأن من هو بشكل شيء محيط وهو محيط ولا يحاط به ، كيف يمتنع أن يستقبل العبد وجهه تعالى حيث كان وأين كان ، وقوله : (  فثم وجه الله      ) إشارة إلى مكان موجود ، والله تعالى فوق الأمكنة كلها ليس في جوفها ، وإن كانت الآية مجملة محتملة لأمرين لم يصح دعوى المجاز فيها ولا في وجه الله حيث ورد ، فبطلت دعواهم أن وجه الله على المجاز لا على الحقيقة ، يوضحه :  
الوجه الثالث والعشرون      : أنه لو أريد بالوجه في الآية الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال : " فأينما تولوا فهو وجه الله " ; لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة فهي التي تولى نفسها ، وإنما يقال : ثم كذا إذا كان هناك أمران ، كقوله تعالى : (  وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا      ) فالنعيم والملك ثم لا أنه نفس الظرف لنفسه ، فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه ، فتأمله .  
ألا ترى أنك إذا أشرت إلى جهة الشرق والغرب لا يصح أن تقول : ثم جهة الشرق وثم جهة الغرب ، بل تقول : هذه جهة الشرق وهذه جهة الغرب ، ولو قلت : هناك جهة الشرق والغرب لكان ذكر اللفظ لغوا ، وذلك لأن ثم إشارة إلى المكان البعيد فلا يشار بها إلى القريب ، والجهة والوجهة مما يحاذيك إلى آخرها ، فجهة الشرق والغرب وجهة القبلة مما يتصل لك إلى حيث ينتهي ، فكيف يقال فيها ثم إشارة إلى البعيد بخلاف      [ ص: 418 ] الإشارة إلى وجه الرب تبارك وتعالى ، فإنه يشار إلى حيث يشار إلى ذاته ، لهذا قال غير واحد من السلف : فثم وجه الله تحقيقا ; لأن المراد وجهه الذي هو من صفات ذاته والإشارة إليه بأنه ثم كالإشارة إليه بأنه فوق سماواته ، وعلى العرش ، وفوق العالم .  
الوجه الرابع العشرون      : أن تفسير القرآن بعضه ببعض أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل ، ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم ، والله تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم القبلة والوجهة ، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه ، فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين .  
الوجه الخامس والعشرون      : أن الآية لو احتملت كل واحد من الأمرين لكان الأولى بها إرادة وجهه الكريم ذي الجلال والإكرام ; لأن المصلي مقصوده التوجه إلى ربه ، فكان من المناسب أن يذكر أنه إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ، ليس في اختلاف الجهات ما يمنع التوجه إلى ربك ، فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال : (  ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله      ) فأخبر أن الجميع ملكه وقد خلقه ، وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم محيط بالمخلوقات عال عليها بكل اعتبار ، فمن استقبل وجهة من الشرق إلى الغرب أو الشمال أو الجنوب أو بين ذلك فإنه متوجه إلى ربه حقيقة ، والله تعالى قبل وجهه إلى أي جهة صلى ، وهو مع ذلك فوق سماواته عال على عرشه ، ولا يتوهم تنافي هذين الأمرين بل اجتماعهما هو الواقع ، ولهذا عامة أهل الإثبات جعل الآية من آيات الصفات وذكرها مع الوجه ، مع قولهم : إن الله تعالى فوق سماواته على عرشه .  
الوجه السادس والعشرون : أنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية ، مشتقة منه كقوله صلى الله عليه وسلم : "  إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه     " ، وقوله : "  فالله يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه     " ، وقوله : "  إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم قبل وجهه     " ، وقوله : "  إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت     " رواه   ابن حبان   [ ص: 419 ] في صحيحه   والترمذي  ، وقال : "  إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء     " .  
وقال  جابر  رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "  إذا قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه ، فإذا التفت أعرض الله عنه وقال : يا ابن  آدم   أنا خير ممن تلتفت إليه ، فإذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه ، فإذا التفت أعرض الله عنه     " وقال   ابن عمر  عن النبي صلى الله عليه وسلم : "  إذا صلى أحدكم فلا يتنخمن تجاه وجه الرحمن      " ، وقال   أبو هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم : "  إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن ، فإذا التفت قال له : ابن آدم إلى من تلتفت ؟ إلى خير لك مني تلتفت  ؟ " .  
				
						
						
