قالت :  وكان الذي كلمه   جعفر بن أبي طالب  ، فقال له :  أيها الملك ! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام   ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، يأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيا ورسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والحج من استطاع إليه سبيلا قالت : فعدد عليه أمور الإسلام ، فصدقناه ، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده ،   [ ص: 260 ] ولم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .  
قالت : فقال له   النجاشي     : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له  جعفر     : نعم ، فقال له   النجاشي     : فاقرأ علي ، فقرأ عليه صدرا من "  كهيعص      " قالت : فبكى والله   النجاشي  حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ، ثم قال   النجاشي     : إن هذا والذي جاء به  عيسى   ، ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقوا ! فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد .  
قالت   أم سلمة     : فلما خرجنا من عنده ، قال   عمرو بن العاص     : والله لآتينه غدا فأعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم ، قالت : فقال له  عبد الله بن أبي ربيعة  ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا ، قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن  عيسى ابن مريم   عبد ، قالت : ثم غدا عليه من الغد ، فقال له : أيها الملك ، إنهم يقولون في  عيسى ابن مريم   قولا عظيما ، فأرسل إليهم فاسألهم عما   [ ص: 261 ] يقولون فيه ، قالت : فأرسل إليهم ليسألهم عنه ، قالت : ولم ينزل بنا مثله . فاجتمع القوم ، فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في  عيسى   إذا سألكم عنه ، قالوا : نقول فيه ما قال الله عز وجل ، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في  عيسى ابن مريم   ؟  
فقال له  جعفر     : نقول فيه الذي جاء به نبينا ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى  مريم  العذراء البتول ، فضرب   النجاشي  يده إلى الأرض ، فأخذ عودا ، ثم قال : ما عدا  عيسى ابن مريم   ، ما قلت هذه العود ، فتناخرت البطارقة حوله حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم ، وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - من سيمكم غنم ومن سبكم غرم ، ما أحب أن لي ديرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدير : بلسان  الحبشة   الجبل .  
ردوا عليهما هداياهما ولا حاجة لي بهما ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . قالت : فخرجا من عنده مقبوحين ، مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					