وكان ملك  الشام   وأحد أكابر علمائهم بالنصرانية (  هرقل     ) قد عرف أنه رسول الله حقا ، وعزم على الإسلام فأبى عليه عباد الصليب ، فخافهم على نفسه ، وضن بملكه - مع علمه - بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، ونحن نسوق قصته .  
ففي الصحيحين من حديث   عبد الله بن عباس  ، أن  أبا سفيان  أخبره من فيه ، قال :  انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فبينا أنا في  الشام   إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى  هرقل  ، وقد كان   دحية بن خليفة  جاء به فدفعه إلى عظيم  بصرى   ، فدفعه عظيم  بصرى   إلى  هرقل  ، فقال  هرقل     : هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من  قريش   ، فدخلنا على  هرقل  ، فأجلسنا بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه فقال : قل لهم : إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه . فقال  أبو سفيان     : وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت . ثم قال لترجمانه : سله ، كيف حسبه فيكم ؟ قال :   [ ص: 276 ] قلت : ذو حسب ، قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : فمن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا ، قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم ، قال : فكيف قتالكم إياه ؟ قال : قلت يكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ، ونصيب منه ، قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها .  
قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه ، قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا . قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أنه لا فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، فسألتك هل كنتم متهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله ، وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن دخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك ، هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله ، ثم قال : فيم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال : إن يكن ما تقوله حقا إنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أكن أظنه منكم ، لو أعلم أني أخلص   [ ص: 277 ] إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ،  من  محمد بن عبد الله   إلى  هرقل  عظيم  الروم   ، سلام على من اتبع الهدى   ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم  الأريسيين   و  قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون      .  
 [ ص: 278 ] فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فخرجنا ، ثم أذن  هرقل  لعظماء  الروم   في دسكرة له  بحمص   ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم طلع فقال : يا معشر  الروم   ، هل لكم في الفلاح والرشد ، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى  هرقل  نفرتهم وأيس من الإيمان قال : ردوهم علي ، فقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عنه     .  
فهذا ملك  الروم      - وكان من علمائهم أيضا - عرف وأقر أنه نبي ، وأنه سيملك ما تحت قدميه ، وأحب الدخول في الإسلام فدعا قومه إليه فولوا عنه معرضين  كأنهم حمر مستنفرة   فرت من قسورة   فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورئاسته ، ومنعه أشباه الحمير مما منع الأمم قبلهم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					