الفصل الثالث :  أحواله - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا   
هذه حاله في جسمه ، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبنا المتقدم بالعقد والقول ، والفعل .  
أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ، ويظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ، كما حدثنا   أبو بحر سفيان بن العاصي  ، وغير واحد سماعا وقراءة ، قالوا : حدثنا   أبو العباس أحمد بن عمر  ، قال : حدثنا  أبو العباس الرازي  ، حدثنا  أبو أحمد بن عمرويه  ، حدثنا  ابن سفيان  حدثنا  مسلم  ، حدثنا   عبد الله بن الرومي  ،   وعباس العنبري  ،  وأحمد المعقري  ، قالوا : حدثنا  النضر بن محمد  ، قال : حدثني  عكرمة  ، حدثنا  أبو النجاشي  ، قال : حدثنا   رافع بن خديج  ، قال :  قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وهم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا ، فتركوه ، فنفضت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا      [ ص: 519 ] بشر     .  
وفي رواية  أنس     :  أنتم أعلم بأمر دنياكم     .  
وفي حديث آخر :  إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذوني بالظن     .  
وفي حديث   ابن عباس  في قصة الخرص ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب     .  
وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا ، وظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه ، وسنة سنها .  
وكما حكى   ابن إسحاق  أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بأدنى مياه  بدر   قال له  الحباب بن المنذر     :  أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟   
قال : لا ، بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب ، فنشرب ولا يشربون . فقال : أشرت بالرأي  ، وفعل ما قاله .  
وقد قال الله - تعالى - له :  وشاورهم في الأمر      [ آل عمران : 159 ] .  
وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر  المدينة   ، فاستشار  الأنصار      . فلما أخبروه برأيهم رجع عنه .  
فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها ، يجوز عليه فيه ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة ، ولا محطة ، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها ، وجعلها همه ، وشغل نفسه بها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ، ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله ، والغفلة . 
وقد تواتر بالنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - من المعرفة بأمور الدنيا ، ودقائق مصالحها ، وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					