الفصل الخامس والعشرون : في  عصمة الله - تعالى - له من الناس ، وكفايته من أذاهم   
قال الله - تعالى - :  والله يعصمك من الناس      [ المائدة : 67 ] .  
وقال - تعالى - :  واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا    [ ص: 337 ]    [ الطور : 48 ] .  
وقال :  أليس الله بكاف عبده      [ الزمر : 36 ] .  
قيل : بكاف  محمدا      - صلى الله عليه وسلم - أعداءه المشركين ، وقيل غير هذا .  
وقال :  إنا كفيناك المستهزئين      [ الحجر : 95 ] .  
وقال :  وإذ يمكر بك الذين كفروا      [ الأنفال : 30 ] الآية .  
[ أخبرنا القاضي الشهيد  أبو علي الصدفي  بقراءتي عليه ، والفقيه الحافظ  أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري  ، قالا : حدثنا  أبو الحسن الصيرفي  ، قال : حدثنا  أبو يعلى البغدادي  ، حدثنا   أبو علي السنجي  ، حدثنا  أبو العباس المروزي  ، حدثنا  أبو عيسى الحافظ  ، حدثنا   عبد بن حميد  ، حدثنا   مسلم بن إبراهيم  ، حدثنا  الحارث بن عبيد ،  عن   سعيد الجريري  ، عن  عبد الله بن شقيق     ] ، عن  عائشة     - رضي الله عنها - ، قالت :  كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية :  والله يعصمك من الناس      [ المائدة : 67 ] فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني ربي عز وجل     .  
وروي  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ، ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله عز وجل فرعدت يد الأعرابي ، وسقط سيفه ، وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه ، فنزلت الآية     .  
وقد رويت هذه القصة في الصحيح ، وأن  غورث بن الحارث  صاحب هذه القصة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفا عنه ، فرجع إلى قومه ، وقال :  جئتكم من عند خير الناس     .  
وقد حكيت مثل هذه الحكاية ، وأنها جرت له يوم  بدر   ، وقد انفرد من أصحابه لقضاء حاجته ، فتبعه رجل من المنافقين . . . وذكر مثله .  
وقد روي أنه وقع له مثلها في غزوة غطفان  بذي أمر   ، مع رجل اسمه  دعثور بن الحارث  ، وأن الرجل أسلم ، فلما رجع إلى قومه الذين أغروه ، وكان سيدهم ، وأشجعهم ، قالوا له : أين ما كنت تقول ، وقد أمكنك ؟ فقال : إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري ، فوقعت لظهري ، وسقط السيف ، فعرفت أنه ملك ، وأسلمت .  
وفيه نزلت :  ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم      [ المائدة : 11 ] الآية .  
 [ ص: 338 ] وفي رواية  الخطابي  أن  غورث بن الحارث المحاربي  أراد أن يفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يشعر به إلا وهو قائم على رأسه منتضيا سيفه ، فقال : اللهم اكفنيه بما شئت فانكب من وجهه من زلخة زلخها بين كتفيه ، وندر سيفه من يده     . الزلخة : وجع الظهر .  
وقيل في قصته غير هذا وذكر فيه نزلت :  ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم      [ المائدة : 11 ] الآية . وقيل :  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاف  قريشا   ، فلما نزلت هذه الآية استلقى ، ثم قال : من شاء فليخذلني     .  
وذكر   عبد بن حميد  ، قال : كانت حمالة الحطب تضع العضاة ، وهي جمر على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنما يطؤها كثيبا أهيل .  
وذكر   ابن إسحاق  عنها أنها لما بلغها نزول :  تبت يدا أبي لهب وتب      [ المسد : 1 ] ، وذكرها بما ذكرها الله مع زوجها من الذم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو جالس في المسجد ، ومعه  أبو بكر  ، وفي يدها قصر من حجارة . فلما وقفت عليهما لم تر إلا  أبا بكر  ، وأخذ الله - تعالى - ببصرها عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا  أبا بكر  ، أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا القدر فاه .  
وعن   الحكم بن أبي العاص     :  تواعدنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقي  بتهامة   أحد ، فوقعنا مغشيا علينا ، فما أفقنا حتى قضى صلاته ، ورجع إلى أهله .  
ثم تواعدنا ليلة أخرى ، فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت  الصفا   ،  والمروة   ، فحالت بيننا ، وبينه     .  
وعن  عمر     - رضي الله عنه - :  تواعدت أنا   وأبو جهم بن حذيفة  ليلة قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجئنا منزله ، فسمعنا له ، فافتتح ، وقرأ :  الحاقة   ما الحاقة      [ الحاقة : 1 - 2 ] إلى :  فهل ترى لهم من باقية      [ الحاقة : 8 ] . فضرب  أبو جهم  على عضد  عمر  ، وقال : انج ، وفرا هاربين  ، فكانت من مقدمات إسلام  عمر     - رضي الله عنه - ومنه      [ ص: 339 ] العبرة المشهورة ، والكفاية التامة عندما أخافته  قريش   ، وأجمعت على قتله ، وبيتوه ، فخرج عليهم من بيته ، فقام على رءوسهم ، وقد ضرب الله - تعالى - على أبصارهم ، وذر التراب على رءوسهم ، وخلص منهم .  
وحمايته عن رؤيتهم في الغار بما هيأ الله له من الآيات ، ومن العنكبوت الذي نسج عليه ، حتى قال  أمية بن خلف  حين قالوا : ندخل الغار : ما أربكم فيه ، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد  محمد      .  
ووقعت حمامتان على فم الغار ، فقالت  قريش      : لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام .  
وقصته مع  سراقة بن مالك بن جعشم  حين الهجرة   ، وقد جعلت  قريش   فيه ، وفي  أبي بكر  الجعائل ، فأنذر به ، فركب فرسه ، واتبعه حتى إذا قرب منه دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فساخت قوائم فرسه ، فخر عنها ، واستقسم بالأزلام ، فخرج له ما يكره . ثم ركب ، ودنا حتى سمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو لا يلتفت ،  وأبو بكر     - رضي الله عنه - يلتفت ، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أتينا . فقال :  لا تحزن إن الله معنا   فساخت ثانية إلى ركبتيها ، وخر عنها ، فزجرها فنهضت ، ولقوائمها مثل الدخان فناداهم بالأمان فكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أمانا ، كتبه  ابن فهيرة  ، وقيل  أبو بكر  ، وأخبرهم بالأخبار ، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يترك أحدا يلحق بهم .  
فانصرف يقول للناس : كفيتم ما ههنا     .  
وقيل : بل قال لهما : أراكما دعوتما علي ، فادعوا لي .  
فنجا ، ووقع في نفسه ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
وفي خبر آخر : أن راعيا عرف خبرهما ، فخرج يشتد ، يعلم  قريشا   ، فلما ورد  مكة   ضرب على قلبه ، فما يدري ما يصنع ، وأنسي ما خرج له حتى رجع إلى موضعه .  
وجاءه - فيما ذكر   ابن إسحاق  ، وغيره -  أبو جهل  بصخرة ، وهو ساجد ،  وقريش   ينظرون ، ليطرحها عليه ، فلزقت بيده ، ويبست يداه إلى عنقه ، وأقبل يرجع القهقرى إلى خلفه ، ثم سأله أن يدعو له ، ففعل ، فانطلقت يداه ، وكان قد تواعد مع  قريش   بذلك ، وحلف لئن رآه ليدمغنه ، فسألوه عن شأنه ، فذكر أنه عرض لي دونه فحل ، ما رأيت مثله قط ، هم بي أن يأكلني .  
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ذاك  جبريل   ، لو دنا لأخذه     .  
وذكر  السمرقندي  أن رجلا من  بني المغيرة   أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتله ، فطمس الله على بصره ، فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسمع قوله ، فرجع إلى      [ ص: 340 ] أصحابه فلم يرهم حتى نادوه     .  
وذكر أن في هاتين القصتين نزلت :  إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا      [ يس : 8 ] الآيتين  
ومن ذلك ما ذكره   ابن إسحاق  ، وغيره في قصته ،  إذ خرج إلى  بني قريظة   في أصحابه ، فجلس إلى جدار بعض آطامهم ، فانبعث  عمرو بن جحاش  أحدهم ليطرح عليه رحى ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فانصرف إلى المدينة ، وأعلمهم بقصتهم     .  
وقد قيل : إن قوله - تعالى - :  ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم      [ المائدة : 11 ] في هذه القصة نزلت .  
وحكى  السمرقندي  أنه  خرج إلى  بني النضير    يستعين في عقل الكلابيين اللذين قتلهما   عمرو بن أمية  ، فقال له  حيي بن أخطب     : اجلس يا  أبا القاسم   حتى نطعمك ، ونعطيك ما سألتنا .  
فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع  أبي بكر  ،  وعمر     - رضي الله عنهما - ، وتوامر  حيي  معهم على قتله ، فأعلم  جبريل      - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقام كأنه يريد حاجته حتى دخل  المدينة      .  
وذكر أهل التفسير ، والحديث عن   أبي هريرة     - رضي الله عنه -  أن  أبا جهل  وعد  قريشا   لئن رأى  محمدا   يصلي ليطأن رقبته .  
فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلموه ، فأقبل ، فلما قرب منه ، ولى هاربا ناكصا على عقبيه ، متقيا بيديه ، فسئل فقال : لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوي فيه ، وأبصرت هولا عظيما ، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض .  
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تلك الملائكة ، لو دنا لاختطفته عضوا عضوا .  
ثم أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - :  كلا إن الإنسان ليطغى      [ العلق : 6 ] إلى آخر السورة ;  
ويروى  أن   شيبة بن عثمان الحجبي  أدركه يوم  حنين   ، وكان  حمزة  قد قتل أباه ، وعمه ، فقال : اليوم أدرك ثأري من  محمد      .      [ ص: 341 ] فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ، ورفع سيفه ليصبه عليه ، قال : فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق ، فوليت هاربا ، وأحس بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني ، فوضع يده على صدري ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي ، وقال لي : ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي وأقيه بنفسي ، ولو لقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه     .  
وعن  فضالة بن عمرو     :  أردت قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، وهو يطوف بالبيت ، فلما دنوت منه قال : أفضالة ؟ قلت : نعم . قال : ما كنت تحدث به نفسك ؟ قلت : لا شيء . فضحك ، واستغفر لي ، ووضع يده على صدري ، فسكن قلبي ، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه     .  
ومن مشهور ذلك  خبر  عامر بن الطفيل  ،  وأربد بن قيس  حين وفدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان  عامر  قال له : أنا أشغل عنك وجه  محمد   ، فاضربه أنت . فلم يره فعل شيئا ، فلما كلمه في ذلك قال له : والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني ، وبينه ، أفأضربك  ؟ ! .  
ومن عصمته له - تعالى - أن كثيرا من  اليهود   ، والكهنة أنذروا به ، وعينوه  لقريش   ، وأخبروهم بسطوته بهم ، وحضوهم على قتله ، فعصمه الله - تعالى - حتى بلغ فيه أمره .  
ومن ذلك نصره بالرعب أمامه مسيرة شهر ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					