فصل منزلة الخوف  
ومن منازل ( (  إياك نعبد وإياك نستعين      ) ) منزلة الخوف      .  
وهي من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب ، وهي  فرض على كل أحد   ، قال الله تعالى  فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين   وقال تعالى  وإياي فارهبون   وقال  فلا تخشوا الناس واخشون   ومدح أهله في كتابه وأثنى عليهم ، فقال  إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون   إلى قوله  أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون   وفي المسند   والترمذي  عن  عائشة  رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ، قول الله  والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة   أهو الذي يزني ، ويشرب الخمر ، ويسرق ؟ قال : لا يا  ابنة الصديق   ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يقبل منه  قال  الحسن     : عملوا والله بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن ترد عليهم ، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية ،  والمنافق جمع إساءة وأمنا      .  
و ( ( الوجل ) ) و ( ( الخوف ) ) و ( ( الخشية ) ) و ( ( الرهبة ) ) ألفاظ متقاربة غير مترادفة ، قال   أبو القاسم الجنيد     : الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس .  
 [ ص: 508 ] وقيل : الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف .  
وقيل : الخوف قوة  العلم بمجاري الأحكام   ، وهذا سبب الخوف ، لا أنه نفسه  
وقيل :  الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره      .  
و ( ( الخشية ) ) أخص من الخوف ، فإن الخشية للعلماء بالله ، قال الله تعالى  إنما يخشى الله من عباده العلماء   فهي خوف مقرون بمعرفة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم  إني أتقاكم لله ، وأشدكم له خشية     .  
فالخوف حركة ، والخشية انجماع ، وانقباض وسكون ، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان :  
إحداهما : حركة للهرب منه ، وهي حالة الخوف .  
والثانية : سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه ، وهي الخشية ، ومنه : انخشى الشيء ، والمضاعف والمعتل أخوان ، كتقضي البازي وتقضض .  
وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه ، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه .  
وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى ، يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع .  
وأما الوجل فرجفان القلب ، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته ، أو لرؤيته .  
وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال ، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة . والإجلال : تعظيم مقرون بالحب .  
فالخوف لعامة المؤمنين ، والخشية للعلماء العارفين ، والهيبة للمحبين ، والإجلال للمقربين ،  وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم  إني لأعلمكم بالله ، وأشدكم له خشية   وفي رواية " خوفا " وقال  لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات      [ ص: 509 ] تجأرون إلى الله تعالى     .  
فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب ، والإمساك ، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم ، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ، ومثل الطبيب الحاذق ، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب ، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء .  
قال  أبو حفص     : الخوف سوط الله ، يقوم به الشاردين عن بابه ، وقال : الخوف سراج في القلب ، به يبصر ما فيه من الخير والشر ، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل ، فإنك إذ خفته هربت إليه .  
فالخائف هارب من ربه إلى ربه .  
قال  أبو سليمان     : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب ، وقال  إبراهيم بن سفيان     : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ، وقال  ذو النون     : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق ، وقال      [ ص: 510 ]  حاتم الأصم     : لا تغتر بمكان صالح ، فلا مكان أصلح من الجنة ، ولقي فيها آدم ما لقي ، ولا تغتر بكثرة العبادة ، فإن إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي ، ولا تغتر بكثرة العلم ، فإن  بلعام بن باعورا  لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم ، ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم ، فلا شخص أصلح من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون .  
والخوف ليس مقصودا لذاته ، بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ، ولهذا يزول بزوال المخوف ، فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .  
والخوف يتعلق بالأفعال ، والمحبة تتعلق بالذات والصفات ، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ، ولا يلحقهم فيها خوف ، ولهذا كانت منزلة المحبة ومقامها أعلى وأرفع من منزلة الخوف ومقامه .  
والخوف المحمود الصادق      : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط .  
قال  أبو عثمان     : صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا .  
 [ ص: 511 ] وسمعت شيخ الإسلام  ابن تيمية  قدس الله روحه يقول :  الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله      .  
وقال صاحب المنازل : الخوف هو الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر .  
يعني الخروج عن سكون الأمن باستحضار ما أخبر الله به من الوعد والوعيد .  
قال : وهو على ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : الخوف من العقوبة ، وهو الخوف الذي يصح به الإيمان ، وهو خوف العامة ، وهو يتولد من تصديق الوعيد ، وذكر الجناية ، ومراقبة العاقبة .  
والخوف مسبوق بالشعور والعلم ، فمحال خوف الإنسان مما لا شعور له به .  
وله متعلقان ، أحدهما : نفس المكروه المحذور وقوعه ، والثاني : السبب والطريق المفضي إليه ، فعلى قدر شعوره بإفضاء السبب إلى المخوف ، وبقدر المخوف يكون خوفه ، وما نقص من شعوره بأحد هذين نقص من خوفه بحسبه .  
فمن لم يعتقد أن سبب كذا يفضي إلى محذور كذا لم يخف من ذلك السبب ، ومن اعتقد أنه يفضي إلى مكروه ما ، ولم يعرف قدره لم يخف منه ذلك الخوف ، فإذا عرف قدر المخوف ، وتيقن إفضاء السبب إليه حصل له الخوف .  
هذا معنى تولده من تصديق الوعيد ، وذكر الجناية ، ومراقبة العاقبة .  
وفي مراقبة العاقبة : زيادة استحضار المخوف ، وجعله نصب عينه ، بحيث لا ينساه ، فإنه وإن كان عالما به لكن نسيانه وعدم مراقبته يحول بين القلب وبين الخوف ، فلذلك كان الخوف علامة صحة الإيمان ، وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه ، والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					