فصل  
قال صاحب " المنازل " :  
قال الله تعالى :  يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية   فادخلي في عبادي وادخلي جنتي    [ ص: 176 ] لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا . وشرط القاصد الدخول في الرضا . والرضا اسم للوقوف الصادق ، حيثما وقف العبد . لا يلتمس متقدما ولا متأخرا ، ولا يستزيد مزيدا . ولا يستبدل حالا . وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص . وأشقها على العامة .  
أما قوله : لم يدع في هذه الآية للمتسخط إليه سبيلا فلأنه قيد رجوعها إليه سبحانه بحال . وهو وصف الرضا . فلا سبيل إلى الرجوع إليه مع سلب ذلك الوصف عنها . وهذا نظير قوله تعالى :  الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون      . فإنما أوجب لهم هذا السلام من الملائكة والبشارة بقيد ، وهو وفاتهم طيبين . فلم تبق الآية لغير الطيب سبيلا إلى هذه البشارة .  
والحاصل : أن  الدخول في الرضا شرط في رجوع النفس إلى ربها      . فلا ترجع إليه إلا إذا كانت راضية .  
قلت : هذا تعلق بإشارة الآية ، لا بالمراد منها . فإن المراد منها : رضاها بما حصل لها من كرامته . وبما نالته منها عند الرجوع إليه . فحصل لها رضاها ، والرضا عنها . وهذا يقال لها عند خروجها من دار الدنيا ، وقدومها على الله .  
قال   عبد الله بن عمرو  رضي الله عنهما : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله إليه ملكين . وأرسل إليه بتحفة من الجنة . فيقال : اخرجي أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان ، ورب عنك راض     .  
وفي  وقت هذه المقالة   ثلاثة أقوال للسلف .  
أحدها : أنه عند الموت . وهو الأشهر .  قال  الحسن     : إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها . ورضيت عن الله ، فيرضى الله عنها     .  
وقال آخرون : إنما يقال لها ذلك عند البعث . هذا قول  عكرمة  و  عطاء  و  الضحاك  و جماعة .  
وقال آخرون : الكلمة الأولى وهي  ارجعي إلى ربك راضية مرضية   تقال لها      [ ص: 177 ] عند الموت . والكلمة الثانية - وهي  فادخلي في عبادي وادخلي جنتي   تقال لها يوم القيامة .  قال  أبو صالح  ارجعي إلى ربك راضية مرضية   هذا عند خروجها من الدنيا     . فإذا كان يوم القيامة قيل لها  فادخلي في عبادي وادخلي جنتي   
والصواب : أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ، ويوم القيامة . فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا ، وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى ، إن كانت مطمئنة إلى الله ، وفي جنته . كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة . فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك . وحينئذ فيكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة .  
فأول ذلك عند الموت . وتمامه ونهايته يوم القيامة ، فلا اختلاف في الحقيقة .  
ولكن الشيخ أخذ من إشارة الآية : أن رجوعها إلى الله من الخلق في هذا العالم إنما يحصل برضاها . ولكن لو استدل بالآية في مقام الطمأنينة لكان أولى ، فإن هذا الرجوع الذي حصل لها فيه رضاها والرضا عنها : إنما نالته بالطمأنينة . وهو حظ الكسب من هذه الآية ، وموضع التنبيه على موقع الطمأنينة ، وما يحصل لصاحبها . فلنرجع إلى شرح كلامه .  
قوله :  الرضا هو الوقوف الصادق .   يريد به الوقوف مع مراد الرب تبارك وتعالى الديني حقيقة ، من غير تردد في ذلك ولا معارضة . وهذا مطلوب القوم السابقين . وهو الوقوف الصادق مع محاب الرب تعالى ، من غير أن يشوب ذلك تردد ، ولا يزاحمه مراد .  
قوله : حيثما وقف العبد . يصح أن يكون العبد فاعلا . أي حيث ما وقف بإذن ربه لا يلتمس تقدما ولا تأخرا . ويصح أن يكون مفعولا ، وهو أظهر . أي حيثما وقف الله العبد - فإن وقف يستعمل لازما ومتعديا - أي حيثما وقفه ربه . لا يطلب تقدما ولا تأخرا . وهذا إنما يكون فيما يقفه فيه من مراده الكوني الذي لا يتعلق بالأمر والنهي . وأما إذا وقفه في مراد ديني ، فكماله بطلب التقدم فيه دائما . فإنه إن لم تكن همته التقدم إلى الله في كل لحظة : رجع من حيث لا يدري . فلا وقوف في الطريق ألبتة ، ولكن إذا وقف في مقام - من الغنى والفقر ، والراحة والتعب ، والعافية والسقم ، والاستيطان ومفارقة الأوطان - يقف حيث وقفه . لا يطلب غير تلك الحالة التي أقامه الله فيها . وهذا لتصحيح رضاه باختيار الله له ، والفناء به عن اختياره لنفسه .  
وكذلك قوله : لا يستزيد مزيدا ، ولا يستبدل حالا .  
هذا المعنى الذي ذكره الشيخ فرد من أفراد الرضا ، وهو الرضا بالأقسام والأحكام الكونية التي لم يؤمر بمدافعتها .  
 [ ص: 178 ] وقوله : وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص يعني أن سلوك أهل الخصوص : هو بالخروج عن النفس ، والخروج عن الإرادة : هو مبدأ الخروج عن النفس . فإذا الرضا - بهذا الاعتبار - من أوائل مسالك الخاصة .  
وهذا على أصله في كون الفناء غاية مطلوبة فوق الرضا .  
والصواب : أن الرضا أجل منه وأعلى . وهو غاية لا بداية .  
نعم فوقه مقام الشكر فهو منزلة بينه وبين منزلة الصبر .  
وقوله : وأشقها على العامة وذلك لمشقة الخروج عن الحظوظ على العامة ، والرضا أول ما فيه : الخروج عن الحظوظ . والله سبحانه وتعالى أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					