قال : وهو على ثلاث درجات :  الدرجة الأولى : الانبساط مع الخلق      . وهو أن تعتزلهم ، ضنا على نفسك ، أو شحا على حظك . وتسترسل لهم في فضلك . وتسعهم بخلقك ، وتدعهم يطؤونك . والعلم قائم ، وشهود المعنى دائم .  
يريد : لا تبخل عليهم بنفسك . فيحملك ذلك البخل على اعتزالهم . وتشح بحظك في الخلوة . وراحة العزلة : أن تذهب بمخالطتهم ، بل تحملك السماحة والجود والبذل على أن تترك ذلك لراحة إخوانك بك ، وانتفاعهم بمجالستك . فتتكرم عليهم بحظك في عزلتك وخلوتك ، وتؤثرهم به على نفسك .  
وهذا من الفتوة . والمروءة والتخلق ضد من أضدادها .  
قوله : وتسترسل لهم من فضلك .  
يعني : إذا استرسلت معهم ، ولم تجذب عنهم عنانك : نالوا من فضلك . فيكون استرسالك سببا لنيلهم لفضلك ، وقبض العنان سببا للحرمان .  
 [ ص: 338 ] وتسعهم بخلقك باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة ، فخذ منهم ما أمر الله نبيه أن يأخذه من أخلاق الناس . وهو العفو .  
وتدعهم يطؤونك أي يدوسونك من لينك وتواضعك ، وخفض جناحك ، بحيث لا تترك لنفسك بينهم رتبة تتقاضاهم أن يحترموك لأجلها . هذا معنى كلامه .  
قوله : والعلم قائم . وشهود المعنى دائم .  
أما قيام العلم : فهو أن يكون هذا الاسترسال موافقا للشرع، غير مخرج عن حدوده وآدابه ، بحيث لا تحملهم على تعدي حدود الله ، وتضييع حقه وحقوق عباده .  
وأما دوام شهود المعنى فهو حفظ حالك وقلبك مع الله ، ودوام إقبالك عليه بقلبك كله . فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط . ومفارقتهم بقلبك وسرك ، مشاهدا للمعنى الذي به حياتك . فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء . فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح . فإذا فات العبد علته الكآبة ، وغمره الهم والغم والأحزان ، وتلون في أفعاله وأقواله . وتاه قلبه في الأودية والشعاب . وفقد نعيم الدنيا والآخرة . وهذا هو الذي أشار إليه  يحيى الصرصري  في قوله :  
إذا صار قلب العبد للسر معدنا تلوح على أعطافه بهجة السنا وإن فاته المعنى علته كآبة فأصبح في أفعاله متلونا فمتى كان شهود هذا المعنى قائما في قلبك : لا يضرك مخالطة من لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					