فصل  
والفراسة ثلاثة أنواع      : إيمانية . وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة .  
وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده . يفرق به بين الحق والباطل ، والحالي والعاطل ، والصادق والكاذب .
وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده . يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة . لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة . وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة .  
 [ ص: 454 ] وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان . فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة .  
قال   أبو سعيد الخراز     : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق ، وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة . بل حكم حق جرى على لسان عبده .  
وقال  الواسطي     : الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب ، وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب ، حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها ، فيتكلم عن ضمير الخلق .  
وقال  الداراني     : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان .  
وسئل بعضهم عن الفراسة ؟ فقال : أرواح تتقلب في الملكوت . فتشرف على معاني الغيوب . فتنطق عن أسرار الخلق ، نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان .  
وقال  عمرو بن نجيد     :  كان  شاه الكرماني  حاد الفراسة لا يخطئ . ويقول : من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشهوات ، وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة ، وتعود أكل الحلال : لم تخطئ فراسته     .  
وقال  أبو جعفر الحداد     : الفراسة أول خاطر بلا معارض ، فإن عارضه معارض آخر من جنسه . فهو خاطر وحديث نفس .  
وقال   أبو حفص النيسابوري     : ليس لأحد أن يدعي الفراسة . ولكن يتقي الفراسة من الغير . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  اتقوا فراسة المؤمن . فإنه ينظر بنور الله     . ولم يقل : تفرسوا . وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة ؟  
وقال   أحمد بن عاصم الأنطاكي     : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق . فإنهم جواسيس القلوب ، يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون     .  
وكان  الجنيد  يوما يتكلم على الناس . فوقف عليه شاب نصراني متنكرا . فقال : أيها الشيخ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم  اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله  فأطرق  الجنيد  ، ثم رفع رأسه إليه . وقال : أسلم . فقد حان وقت إسلامك . فأسلم الغلام .  
 [ ص: 455 ] ويقال في بعض الكتب القديمة : إن الصديق لا تخطئ فراسته .  
وقال   ابن مسعود  رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة :  العزيز  في  يوسف ،   حيث قال لامرأته :  أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا      . وابنة  شعيب   حين قالت لأبيها في  موسى      : استأجره  وأبو بكر  في  عمر  رضي الله عنهما ، حيث استخلفه . وفي رواية أخرى :  وامرأة فرعون  حين قالت :  قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا      .  
وكان   الصديق  رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة . وبعده   عمر بن الخطاب  رضي الله عنه . ووقائع فراسته مشهورة . فإنه ما قال لشيء أظنه كذا إلا كان كما قال . ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة .  
ومر به  سواد بن قارب ،  ولم يكن يعرفه . فقال : لقد أخطأ ظني ، أو أن هذا كاهن ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية . فلما جلس بين يديه قال له ذلك  عمر     . فقال : سبحان الله ، يا أمير المؤمنين ، ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به . فقال له  عمر  رضي الله عنه : ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك . ولكن أخبرني عما سألتك عنه . فقال : صدقت يا أمير المؤمنين . كنت كاهنا في الجاهلية . ثم ذكر القصة .  
وكذلك   عثمان بن عفان  رضي الله عنه صادق الفراسة .  وقال   أنس بن مالك  رضي الله عنه : دخلت على   عثمان بن عفان  رضي الله عنه . وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها . فقال  عثمان  رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه . فقلت : أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة .  
وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة .  
وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده ، فيحيا القلب بذلك ويستنير ، فلا تكاد فراسته تخطئ . قال الله تعالى :  أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها   كان ميتا بالكفر والجهل ، فأحياه الله بالإيمان والعلم . وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل . ويمشي به في الظلم . والله أعلم .  
 [ ص: 456 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					