فصل  
قال : الدرجة الثالثة :  استغراق الشواهد في الجمع   ، وهذا رجل شملته أنوار      [ ص: 199 ] الأولية ، ففتح عينه في مطالعة الأزلية ، فتخلص من الهمم الدنية .  
إنما كان هذا الاستغراق عنده أكمل مما قبله ؛ لأن الأول استغراق كاشف في كشف ، وهو متضمن لتفرقة ، وهذا استغراق عن شهود كشفه في الجمع ، فتمكن هذا في حال جمع همته مع الحق حتى غاب عن إدراك شهوده ، وذكر رسومه ، لما توالى عليه من الأنوار التي خصه الحق بها في الأزل ، وهي أنوار كشف اسمه الأول ففتح عين بصيرته في مطالعة الاختصاصات الأزلية ، فتخلص بذلك من الهمم الدنية المنقسمة بين تغيير مقسوم ، أو تفويت مضمون ، أو تعجيل مؤخر ، أو تأخير سابق ونحو ذلك .  
وقد يراد بالهمم الدنية تعلقها بما سوى الحق سبحانه وما كان له ، وعلى هذا فاستغراق شواهده في جمع الحكم وشموله .  
وقد يراد به معنى آخر ، وهو استغراق شواهد الأسماء والصفات في الذات الجامعة لها ، فإن الذات جامعة لأسمائها وصفاتها ، فإذا استغرق العبد في حضرة الجمع غابت الشواهد في تلك الحضرة .  
وأكمل من ذلك : أن يشهد كثرة في وحدة ، ووحدة في كثرة ، بمعنى : أن يشهد كثرة الأسماء والصفات في الذات الواحدة ، ووحدة الذات مع كثرة أسمائها وصفاتها .  
وقوله : " ففتح عينه في مطالعة الأزلية " نظر بالله لا بنفسه ، واستمد من فضله وتوفيقه لا من معرفته وتحقيقه ، فشاهد سبق الله سبحانه وتعالى لكل شيء وأوليته قبل كل شيء ، فتخلص من همم المخلوقين المتعلقة بالأدنى ، وصارت له همة عالية متعلقة بربه الأعلى تسرح في رياض الأنس به ومعرفته ، ثم تأوي إلى مقاماتها تحت عرشه ساجدة له ، خاضعة لعظمته ، متذللة لعزته ، لا تبغي عنه حولا ولا تروم به بدلا .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					