فصل  
قال : الدرجة الثالثة :  تمكن العارف   ، وهو أن يحصل في الحضرة فوق حجب الطلب لابسا نور الوجود .  
العارف فوق السالك ، ولا يفارقه السلوك ، لكنه مع السلوك قد ظفر بالمعرفة ، فأخذ منها اسما أخص من اسم السالك ، وهكذا الشأن في سائر المقامات والأحوال ، فإنها لا تفارق من ترقى فيها ، ولكن إذا ترقى في مقام أخذ اسمه ، وكان أحق به مع ثبوت الأول له .  
والحضرة يراد بها   حضرة الجمع ، وعندي : أنها حضرة دوام المراقبة والتمكن من مقام الإحسان ، هذه حضرة الأنبياء والعارفين .  
وأما حضرة الجمع التي يشيرون إليها فكل فرقة تشير إلى شيء ، فأهل الفناء يريدون حضرة جمع الفناء في توحيد الربوبية   ، وأهل الإلحاد : يريدون حضرة جمع الوجود في وجود واحد ، وطائفة من السالكين يريدون حضرة جمع الأسماء والصفات في ذات واحدة .  
 [ ص: 208 ] وإذا فسرت بحضرة دوام المراقبة والتمكن في مقام الإحسان كان ذلك أحسن وأصح ، وصاحب هذه الحضرة لدوام مراقبته قد انقشعت عنه سحب الغفلات ، ولم تشغله عن تلك الحضرة الشواغل الملهيات .  
قوله : " فوق حجب الطلب " يعني أن العارف قد ارتفع عن مقام الطلب للمعرفة إلى مقام حصولها ، والطالب للأمر دون الواصل إليه ، فالطالب بعد في حجاب طلبه ، والعارف قد ارتفع فوق حجاب الطلب بما شاهده من الحقيقة ، فالطالب شيء ، والواجد شيء .  
وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان ، فإن الطلب لا يفارق العبد ، ما دامت أحكام العبودية تجري عليه ، ولكنه متنقل في منازل الطلب ، ينتقل من عبودية إلى عبودية ، والمعبود واحد جل وعلا ، لا ينتقل عنه ، فكيف يمكن  تجرد المعرفة عن الطلب   ؟  
هذا موضع زلت فيه أقدام ، وضلت فيه أفهام ، وظن المخدوعون المغرورون أنهم قد استغنوا بالمعرفة عن الطلب ، وأن الطلب وسيلة والمعرفة غاية ، ولا معنى للاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية .  
فهؤلاء خرجوا عن الدين بالكلية ، بعد أن شمروا في السير فيها ، فردوا على أدبارهم ، ونكصوا على أعقابهم ، ولم يفهموا مراد أهل الاستقامة بذكر حجب الطلب .  
واعلم أن كل ما منك حجاب على مطلوبك ، فإن وقفت معه فأنت دون الحجاب ، وإن قطعته إلى تجريد المطلوب صرت فوق الحجاب ، فطلبك وإرادتك وتوكلك ، وحالك وعملك كله حجاب ، إن وقفت معه أو ركنت إليه ، وإن جاوزته إلى الذي أنت به وله وفي يديه وتحت تصرفه ومشيئته ، وليس لك ذرة واحدة إلا به ومنه ، ولم تقف مع طلبك في إرادتك فقد صرت فوق حجاب الطلب .  
ففي الحقيقة : أنت حجاب قلبك عن ربك ، فإذا كشفت الحجاب عن القلب أفضى إلى الرب ، ووصل إلى الحضرة المقدسة .  
وقولنا : " إذا كشفت الحجاب " إخبار عن محل العبودية ، وإلا فكشفه ليس بيدك ، ولا أنت الكاشف له ، فإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو .  
ومن أعظم الضر : حجاب القلب عن الرب ، وهو أعظم عذابا من الجحيم ، قال      [ ص: 209 ] تعالى :  كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون   ثم إنهم لصالو الجحيم      .  
قوله : " لابسا نور الوجود " المعنى الصحيح من هذه اللفظة : أن نور الوجود نور ظفره بإقبال قلبه على الله عز وجل ، وجمع همه عليه ، وفنائه بمراده عن مراد نفسه ، فصار واجدا لما أكثر الخلق فاقد له ، قد لبس قلبه نور ذلك الوجود ، حتى فاض على لسانه وجوارحه ، وحركاته وسكناته ، فإن نطق علاه النور وإن سكت علاه النور .  
وأخص من هذا : أنه قد فاض على قلبه نور اليقين بالأسماء والصفات ، فصار لقلبه من معرفتها والإيمان بها ، وذوق حلاوة ذلك نور خاص غير مجرد نور العبادة والإرادة والسلوك ، وإياك أن تلتفت إلى غير هذا  فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله      .  
وليس مراد الشيخ بالوجود ما يريده المتكلمون والفلاسفة ، ولا ما يريده الاتحادية الملاحدة ، وإنما مراده به الوجدان بعد الفقد ، كما يقال : فلان واجد ، وفلان فاقد ، والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					