( فصل ) : 
وأما ما يرجع إلى المسروق  فأنواع : ( منها ) أن يكون مالا مطلقا لا قصور في ماليته ، ولا شبهة ، وهو أن يكون مما يتموله الناس ، ويعدونه مالا ; لأن ذلك يشعر بعزته ، وخطره عندهم ، وما لا يتمولونه فهو تافه حقير ، قد روي عن - سيدتنا - عائشة  رضي الله عنها أنها قالت : { لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه   } ، وهذا منها بيان شرع متقرر ; ولأن التفاهة تخل في الحرز ; لأن التافه لا يحرز عادة ، أو لا يحرز إحراز الخطر ، والحرز المطلق شرط على ما نذكر . 
وكذا تخل في الركن ، وهو الأخذ على سبيل الاستخفاء ; لأن أخذ التافه مما لا يستخفي منه فيتمكن الخلل والشبهة في الركن ، والشبهة في باب الحدود ملحقة بالحقيقة ويخرج على هذا مسائل : إذا سرق صبيا حرا  لا يقطع ; لأن الحر ليس بمال ، ولو سرق صبيا عبدا لا يتكلم ، ولا يعقل  يقطع في قول  أبي حنيفة    . 
وروي عن  أبي يوسف    - رحمه الله - : لا يقطع ( ووجهه ) : أن العبد ليس بمال محض ، بل هو مال من وجه ، آدمي من وجه ، فكان محل السرقة من وجه دون وجه ; فلا تثبت المحلية بالشك فلا يقطع كالصبي العاقل . 
( ولنا ) أنه مال من كل وجه ; لوجود معنى المالية فيه على الكمال ، ولا يد له على نفسه فيتحقق ركن السرقة - كالبهيمة - وكونه آدميا لا ينفي كونه مالا ، فهو آدمي من كل وجه ، ومال من كل وجه ; لعدم التنافي فيتعلق القطع بسرقته من حيث إنه مال ، لا من حيث إنه آدمي ، بخلاف العاقل ; لأنه وإن كان مالا من كل وجه لكنه في يد نفسه ، فلا يتصور ثبوت يد غيره عليه ; للتنافي فلا يتحقق فيه ركن السرقة : وهو الأخذ ، ولو سرق ميتة ، أو جلد ميتة  لم يقطع ; لانعدام المال  [ ص: 68 ] ولا يقطع في التبن ، والحشيش ، والقصب ، والحطب ; لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء . 
ولا يظنون بها ; لعدم عزتها ، وقلة خطرها عندهم ، بل يعدون الظنة بها من باب الخساسة ، فكانت تافهة ، ولا قطع في التراب ، والطين ، والجص ، واللبن ، والنورة ، والآجر ، والفخار ، والزجاج ; لتفاهتها فرق بين التراب ، وبين الخشب ، حيث سوى في التراب بين المعمول منه وغير المعمول ، وفرق في الخشب ; لأن الصنعة في الخشب أخرجته عن حد التفاهة ، والصنعة في التراب لم تخرجه عن كونه تافها ، يعرف ذلك بالرجوع إلى عرف الناس وعاداتهم ، ومن أصحابنا من فصل في الجواب في الزجاج بين المعمول ، وغير المعمول ، كما في الخشب ، ومنهم من سوى بينهما ، وهو الصحيح ; لأن الزجاج بالعمل لم يخرج عن حد التفاهة ; لأنه يتسارع إليه الكسر ، بخلاف الخشب . 
ولا يقطع في الخشب إلا إذا كان معمولا بأن صنع منه أبوابا ، أو آنية ، ونحو ذلك ما خلا الساج ، والقنا ، والأبنوس ، والصندل ; لأن غير المصنوع من الخشب لا يتمول عادة ، فكان تافها ، وبالصنعة يخرج عن التفاهة فيتمول . 
وأما الساج ، والأبنوس ، والصندل فأموال لها عزة وخطر عند الناس فكانت أموالا مطلقة . 
( وأما ) العاج فقد ذكر  محمد    : أنه لا يقطع إلا في المعمول منه ، وقيل هذا الجواب في العاج الذي هو من عظم الجمل ، فلا يقطع إلا في المعمول منه ; لأنه لا يتمول لتفاهته ، ويقطع في المعمول ; لخروجه عن حد التفاهة بالصنعة - كالخشب المعمول - فأما ما هو من عظم الفيل فلا يقطع فيه أصلا سواء كان معمولا ، أو غير معمول ; لأن الفقهاء اختلفوا في ماليته . 
حتى حرم بعضهم بيعه ، والانتفاع به ، فأوجب ذلك قصورا في المالية ، ولا قطع في قصب النشاب ، فإن كان اتخذ منه نشابا قطع ; لما قلنا في الخشب ، ولا قطع في القرون معمولة كانت ، أو غير معمولة ، وقال  أبو يوسف    : " إن كانت معمولة وهي تساوي عشرة دراهم قطع " قيل إن اختلاف الجواب لاختلاف الموضوع ، فموضوع المسألة على قول  أبي حنيفة    - رحمه الله - : في قرون الميتة ; لأنها ليست بمال مطلق لاختلاف الفقهاء في ماليتها ، وجواب  أبي يوسف    - رحمه الله - : في قرون المذكى فلم يوجب القطع في غير المعمول منها ; لأنها من أجزاء الحيوان ، وأوجب في المعمول كما في الخشب المعمول ، وعن  محمد  في جلود السباع المدبوغة : أنه لا قطع فيها فإن جعلت مصلاة ، أو بساطا قطع ; لأن غير المعمول منها من أجزاء الصيد ولا قطع في الصيد فكذا في أجزائه ، وبالصنعة صارت شيئا آخر فأشبه الخشب المصنوع . 
وهذا يدل على أن  محمدا  لم يعتد ، بخلاف من يقول من الفقهاء : إن جلود السباع لا تطهر بالزكاة ، ولا بالدباغ ، ولا قطع في البواري ; لأنها تافهة لتفاهة أصلها وهو القصب ، ولا قطع في سرقة كلب ، ولا فهد ، ولا في سرقة الملاهي    : من الطبل ، والدف ، والمزمار ونحوها ; لأن هذه الأشياء مما لا يتمول ، أو في ماليتها قصور ، ألا ترى أنه لا ضمان على كاسر الملاهي عند  أبي يوسف  ،  ومحمد  ، ولا على قاتل الكلب ، والفهد عند بعض الفقهاء . 
ولو سرق مصحفا ، أو صحيفة فيها حديث ، أو عربية ، أو شعر  فلا قطع وقال  أبو يوسف    : يقطع إذا كان يساوي عشرة دراهم ; لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال . 
( ولنا ) أن المصحف الكريم يدخر لا للتمول ، بل للقراءة ، والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به ، وكذلك صحيفة الحديث ، وصحيفة العربية ، والشعر يقصد بها معرفة الأمثال والحكم لا التمول . 
( وأما ) دفاتر الحساب ففيها القطع إذا بلغت قيمتها نصابا ; لأن ما فيها لا يصلح مقصودا بالأخذ ، فكان المقصود هو قدر البياض من الكاغد ، وكذلك الدفاتر البيض إذا بلغت نصابا ; لما قلنا ، على هذا يخرج ما قال  أبو حنيفة   ومحمد    - رحمهما الله - : " إن كل ما يوجد جنسه تافها مباحا في دار الإسلام فلا قطع فيه ; لأن كل ما كان كذلك فلا عز له ، ولا خطر فلا يتمول الناس ، فكان تافها " ، والاعتماد على معنى التفاهة دون الإباحة ; لما نذكر - إن شاء الله تعالى - ، وعن  أبي حنيفة  أنه لا قطع في عفص ، ولا إهليلج ، ولا أشنان ولا فحم ; لأن هذه الأشياء مباحة الجنس في دار الإسلام . 
وهي تافهة ، وروي عن  أبي يوسف  أنه لا يقطع في العفص ، والإهليلج ، والأدوية اليابسة ، ولا قطع في طير ولا صيد وحشيا كان ، أو غيره ; لأن الطير لا يتمول عادة ، قد روي عن - سيدنا -  عثمان  ، وسيدنا -  علي  رضي الله عنهما أنهما قالا : " لا قطع في الطير " ولم ينقل عن غيرهما خلاف ذلك ، فيكون إجماعا ، وكذلك ما علم من الجوارح فصار صيودا فلا قطع على سراقه ; لأنه - وإن علم - فلا يعد مالا وعلى هذا يخرج  [ ص: 69 ] النباش  أنه لا يقطع فيما أخذ من القبور في قولهما وقال  أبو يوسف    : يقطع . 
( وجه ) قوله أنه أخذ مالا من حرز مثله فيقطع ، كما لو أخذ من البيت ، ولهما أن الكفن ليس بمال ; لأنه لا يتمول بحال ; لأن الطباع السليمة تنفر عنه أشد النفار ، فكان تافها ، ولئن كان مالا ففي ماليته قصور ; لأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي ، والقصور فوق الشبهة ، ثم الشبهة تنفي وجوب الحد ، فالقصور أولى ، روى الزهري  أنه قال : أخذ نباش في زمن مروان  بالمدينة  فأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون أنه لا يقطع . 
وعلى هذا يخرج سرقة ما لا يحتمل الادخار ، ولا يبقى من سنة إلى سنة ، بل يتسارع إليه الفساد  أنه لا قطع فيه ; لأن ما لا يحتمل الادخار لا يعد مالا ، فلا قطع في سرقة الطعام الرطب ، والبقول ، والفواكه الرطبة في قولهما ، وعند  أبي يوسف  يقطع . 
( وجه ) قوله أنه مال منتفع به حقيقة ، مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق ، فكان مالا ، فيقطع كما في سائر الأموال ، ولهما أن هذه الأشياء مما لا يتمول عادة ، وإن كانت صالحة للانتفاع بها في الحال ; لأنها لا تحتمل الادخار ، والإمساك إلى زمان حدوث الحوائج في المستقبل ; فقل خطرها عند الناس فكانت تافهة . 
ولو سرق تمرا من نخل ، أو شجر آخر معلقا فيه  فلا قطع عليه ، وإن كان عليه حائط استوثقوا منه وأحرزوه ، أو هناك حائط ; لأن ما على رأس النخل لا يعد مالا ; ولأنه ما دام على رأس الشجر لا يستحكم جفافه فيتسارع إليه الفساد ، قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {   : لا قطع في ثمر ولا كثر   } قال  محمد    : الثمر ما كان في الشجر ، والكثر الجمار فإن كان قد جذ الثمر ، وجعله في الجرين ، ثم سرق  فإن كان قد استحكم جفافه قطع ; لأنه صار مالا مطلقا قابلا للادخار ، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال {   : لا قطع في ثمر ، ولا كثر حتى يؤويه الجرين   } فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ; لأنه لا يؤويه الجرين ما لم يستحكم جفافه عادة . 
فإذا استحكم جفافه لا يتسارع إليه الفساد ، فكان مالا مطلقا ، وكذلك الحنطة إذا كانت في سنبلها فهي بمنزلة الثمر المعلق في الشجر ; لأن الحنطة ما دامت في السنبل لا تعد مالا ، ولا يستحكم جفافها أيضا . 
( وأما ) الفاكهة اليابسة التي تبقى من سنة إلى سنة فالصحيح من الرواية عن  أبي حنيفة    - رحمه الله - : أنه يقطع فيما يتمول الناس إياها ; لقبولها الادخار فانعدم معنى التفاهة المانعة من وجوب القطع . 
وروي عنه أنه سوى بين رطب الفاكهة ويابسها ، وليست بصحيحة . 
ولو سرق من الحائط نخلة بأصلها لا يقطع ; لأن أصل النخلة مما لا يتمول ، فكان تافها ، وروينا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال {   : لا قطع في ثمر ولا كثر   } وقيل في تفسير ذلك : إنه النخل الصغار ، ويقطع في الحناء ، والوسمة ; لأنه لا يتسارع إليه الفساد فلم يختل معنى المالية ، ولا قطع في اللحم الطري ، والصفيق ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، وكذلك لا قطع في السمك طريا كان ، أو مالحا ; لأن الناس لا يعدونه مالا لتفاهته ، ولتسارع الفساد إلى الطري منه ، ولما أنه يوجد جنسه مباحا في دار الإسلام ، ولا قطع في اللبن ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، فكان تافها ، ويقطع في الخل ، والدبس لعدم التفاهة . 
ألا ترى أنه لا يتسارع إليهما الفساد ، ولا قطع في : عصير العنب ، ونقيع الزبيب ، ونبيذ التمر ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، فكان تافها كاللبن ، ولا قطع في الطلاء وهو المثلث ; لأنه مختلف في إباحته ، وفي كونه مالا ، فكان قاصرا في معنى المالية ، وكذلك المطبوخ أدنى طبخة من نقيع الزبيب ، ونبيذ التمر لاختلاف الفقهاء في إباحة شربه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					