والصحيح تحريمه مطلقا وفساد العقد به على كل حال ، ويحرم على الآخر أخذ أجرة ضرابه ، ولا يحرم على المعطي ؛ لأنه بذل ماله في تحصيل مباح يحتاج إليه ، ولا يمنع من هذا كما في كسب الحجام ، وأجرة الكساح ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضراب  ، وسمى ذلك بيع عسبه ، فلا يجوز حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهي ، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة ، وإنما غرضه نتيجة ذلك وثمرته ، ولأجله بذل ماله . وقد علل التحريم بعدة علل . 
 [ ص: 705 ] إحداها : أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه ، فأشبه إجارة الآبق ، فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته . 
الثانية : أن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد ، فإنه مجهول القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر ، فإنها احتملت بمصلحة الآدمي ، فلا يقاس عليها غيرها ، وقد يقال - والله أعلم - إن النهي عن ذلك من محاسن الشريعة وكمالها ، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان ، وجعله محلا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء ، وفاعل ذلك عندهم ساقط من أعينهم في أنفسهم ، وقد جعل الله سبحانه فطر عباده لا سيما المسلمين ميزانا للحسن والقبيح ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا ، فهو عند الله قبيح . 
ويزيد هذا بيانا أن ماء الفحل لا قيمة له ، ولا هو مما يعاوض عليه ، ولهذا لو نزا فحل الرجل على رمكة غيره ، فأولدها ، فالولد لصاحب الرمكة اتفاقا ؛ لأنه لم ينفصل عن الفحل إلا مجرد الماء وهو لا قيمة له ، فحرمت هذه الشريعة الكاملة المعاوضة على ضرابه ليتناوله الناس بينهم مجانا ، لما فيه من تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل ، ولا نقصان من ماله ، فمن محاسن الشريعة إيجاب بذل هذا مجانا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من حقها إطراق فحلها وإعارة دلوها  ) فهذه حقوق يضر بالناس منعها إلا بالمعاوضة ، فأوجبت الشريعة بذلها مجانا . 
فإن قيل : فإذا أهدى صاحب الأنثى إلى صاحب الفحل هدية ، أو ساق إليه كرامة فهل له أخذها  ؟ قيل : إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط في  [ ص: 706 ] الباطن لم يحل له أخذه ، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به ، قال أصحاب أحمد   والشافعي   : وإن أعطى صاحب الفحل هدية ، أو كرامة من غير إجارة جاز ، واحتج أصحابنا بحديث روي عن أنس  رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا كان إكراما فلا بأس  ) ، ذكره صاحب " المغني " ولا أعرف حال هذا الحديث ، ولا من خرجه ، وقد نص أحمد  في رواية ابن القاسم  على خلافه ، فقيل له : ألا يكون مثل الحجام يعطى ، وإن كان منهيا عنه ؟ فقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام . 
واختلف أصحابنا في حمل كلام أحمد  رحمه الله على ظاهره ، أو تأويله ، فحمله القاضي على ظاهره ، وقال : هذا مقتضى النظر ، لكن ترك مقتضاه في الحجام ، فبقي فيما عداه على مقتضى القياس . وقال أبو محمد  في " المغني " : كلام أحمد  يحمل على الورع لا على التحريم ، والجواز أرفق بالناس ، وأوفق للقياس . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					