فصل 
في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف  
لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفا على جمعيته على الله ، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ، مما يزيده شعثا ، ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى ، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه ، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى ، وشرعه بقدر المصلحة ، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة . 
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه ، والإقبال  [ ص: 83 ] عليه في محل هموم القلب وخطراته ، فيستولي عليه بدلها ، ويصير الهم كله به ، والخطرات كلها بذكره ، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق ، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . 
ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرا قط ، بل قد قالت  عائشة   : ( لا اعتكاف إلا بصوم  ) . 
ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم . 
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف : أن الصوم شرط في الاعتكاف  ، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية   . 
وأما الكلام ، فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة . 
وأما فضول المنام ، فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة ، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد ، ومدار رياضة أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان  [ ص: 84 ] الأربعة ، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ، ولم ينحرف انحراف الغالين ، ولا قصر تقصير المفرطين ، وقد ذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم في صيامه وقيامه وكلامه ، فلنذكر هديه في اعتكافه . 
كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان  حتى توفاه الله عز وجل ، وتركه مرة ، فقضاه في شوال . 
واعتكف مرة في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ، ثم تبين له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل . 
وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل . 
وكان إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله ، فأمر به مرة ، فضرب فأمر أزواجه بأخبيتهن ، فضربت ، فلما صلى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية ، فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال . 
وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام ، فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما ، وكان يعارضه جبريل  بالقرآن كل سنة مرة ، فلما كان ذلك العام  [ ص: 85 ] عارضه به مرتين وكان يعرض عليه القرآن أيضا في كل سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين . 
وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده ، وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت  عائشة  ، فترجله ، وتغسله وهو في المسجد وهي حائض ، وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف . فإذا قامت تذهب قام معها يقلبها ، وكان ذلك ليلا ، ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها ، وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ، ووضع له سريره في معتكفه ، وكان إذا خرج لحاجته مر بالمريض وهو على طريقه ، فلا يعرج عليه ولا يسأل عنه . واعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرا ، كل  [ ص: 86 ] هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون . والله الموفق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					