فصل 
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة  بعد الهجرة خمس مرات سوى المرة الأولى ، فإنه وصل إلى الحديبية  ، وصد عن الدخول إليها ، أحرم في أربع منهن من الميقات لا قبله ، فأحرم عام الحديبية  من ذي الحليفة  ، ثم دخلها المرة الثانية ، فقضى عمرته وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج ، ثم دخلها في المرة الثالثة عام الفتح في رمضان بغير إحرام ، ثم خرج منها إلى حنين  ، ثم دخلها بعمرة من الجعرانة  ودخلها في هذه العمرة ليلا ، وخرج ليلا ، فلم يخرج من مكة  إلى الجعرانة  ليعتمر كما يفعل أهل مكة  اليوم وإنما أحرم منها في حال دخوله إلى مكة  ، ولما قضى عمرته ليلا ، رجع من فوره إلى الجعرانة  ، فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج من بطن سرف  حتى جامع الطريق [ طريق جمع ببطن سرف   ] ، ولهذا خفيت هذه العمرة على كثير من الناس . 
والمقصود أن عمره كلها كانت في أشهر الحج  مخالفة لهدي المشركين ، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج  ويقولون : هي من أفجر الفجور ، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل منه في رجب بلا شك . 
وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان  ، فموضع نظر ، فقد صح عنه  [ ص: 91 ] أنه أمر أم معقل  لما فاتها الحج معه أن تعتمر في رمضان ، وأخبرها أن عمرة في رمضان تعدل حجة . 
وأيضا : فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان ، وأفضل البقاع ، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عمره إلا أولى الأوقات وأحقها بها ، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره ، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة ، وجعلها وقتا لها ، والعمرة حج أصغر ، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج وذو القعدة أوسطها ، وهذا مما نستخير الله فيه فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه . 
وقد يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة ، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة ، فأخر  [ ص: 92 ] العمرة إلى أشهر الحج ووفر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم ، فإنه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمة إلى ذلك ، وكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم وربما لا تسمح أكثر النفوس بالفطر في هذه العبادة حرصا على تحصيل العمرة وصوم رمضان ، فتحصل المشقة ، فأخرها إلى أشهر الحج ، وقد كان يترك كثيرا من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم . 
ولما دخل البيت خرج منه حزينا ، فقالت له عائشة  في ذلك ؟ فقال : ( إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي  ) ، وهم أن ينزل يستسقي مع سقاة زمزم  للحاج ، فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده . والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					