[ ص: 588 ] فصل في قدوم وفد بني المنتفق   على رسول الله صلى الله عليه وسلم 
روينا عن  عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل  في مسند أبيه ، قال : كتب إلي  إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري   : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك ، فحدث بذلك عني ، قال : حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي  ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عياش السمعي الأنصاري  ، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي  ، عن أبيه ، عن عمه لقيط بن عامر  ، قال دلهم   : وحدثنيه أيضا أبي الأسود بن عبد الله  ، عن عاصم بن لقيط   : أن لقيط بن عامر  خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له : نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق   . 
قال لقيط   : فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة ، فقام في الناس خطيبا فقال : ( أيها الناس ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ، ألا لتسمعوا اليوم ، ألا فهل من امرئ بعثه قومه " ؟ فقالوا له : اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا ثم رجل لعله يلهيه حديث نفسه ، أو حديث صاحبه ، أو يلهيه ضال ، ألا إني مسئول ، هل بلغت ، ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا " فجلس الناس ، وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده ونظره ، قلت : يا رسول الله ، ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك لعمر الله . علم أني أبتغي السقطة ، فقال : " ضن ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا  [ ص: 589 ] الله " وأشار بيده فقلت : ما هن يا رسول الله ؟ قال : " علم المنية ، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه ، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه وما تعلمونه ، وعلم ما في غد قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه ، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين ، فيظل يضحك قد علم أن غوثكم إلى قريب " قال لقيط   : فقلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله . 
قال : " وعلم يوم الساعة " قلنا : يا رسول الله ، علمنا مما تعلم الناس وتعلم ، فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا من مذحج  التي تربو علينا ، وخثعم  التي توالينا ، وعشيرتنا التي نحن منها ، قال : " تلبثون ما لبثتم ، ثم يتوفى نبيكم ، ثم تلبثون ما لبثتم ، ثم تبعث الصائحة ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات ، والملائكة الذين مع ربك ، فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد ، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ، ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه ، حتى تخلفه من عند رأسه فيستوي جالسا ، فيقول ربك : مهيم ، لما كان فيه يقول : يا رب أمس ، اليوم ، لعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله " فقلت : يا رسول الله فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع ؟ قال : " أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، الأرض أشرفت عليها وهي في مدرة بالية " فقلت : لا تحيا أبدا ، ثم أرسل الله عليها السماء ، فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ، ومن مصارعكم ، فتنظرون إليه وينظر إليكم " 
قال : قلت : يا رسول الله ، كيف ونحن ملء الأرض ، وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ قال : " أنبئك بمثل هذا في آلاء الله ، الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ، ولا تضارون في رؤيتهما " ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما ويريانكم ، لا تضارون في رؤيتهما ، قلت : يا رسول الله ، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : " تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية ،  [ ص: 590 ] فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من ماء ، فينضح بها قبلكم ، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحد منكم منها قطرة . 
فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء ، وأما الكافر فتنضحه ، أو قال : فتخطمه بمثل الحمم الأسود ، ألا ثم ينصرف نبيكم ويفترق على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار ، يطأ أحدكم الجمرة ، يقول : حس ، يقول ربك عز وجل ، أو أنه ؛ ألا فتطلعون على حوض نبيكم على أظمأ - والله - ناهلة عليها قط رأيتها ، فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى ، وتخنس الشمس والقمر ، فلا ترون منهما واحدا " . قال : قلت يا رسول الله فبم نبصر ؟ قال : " بمثل بصرك ساعتك هذه ، وذلك قبل طلوع الشمس في يوم أشرقت الأرض وواجهت به الجبال " قال : قلت يا رسول الله فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو " قال : قلت يا رسول الله ما الجنة وما النار ؟ قال : " لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما ، وإن الجنة لها ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما " . 
قلت : يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : " على أنهار من عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن ما يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، ولعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهرة . قلت : يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات ؟ قال المصلحات للصالحين " . 
وفي لفظ الصالحات للصالحين تلذونهن ويلذونكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد " قال لقيط  فقلت : يا رسول الله أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه ؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم قال : قلت يا رسول الله علام أبايعك ؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال : " على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وزيال المشرك ، وأن لا تشرك بالله إلها غيره " قال قلت : يا رسول الله وإن لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن أني مشترط ما لا يعطينيه ، قال : قلت نحل منها حيث شئنا ولا يجني امرؤ إلا على نفسه فبسط يده . 
 [ ص: 591 ] وقال : " لك ذلك تحل حيث شئت ولا يجني عليك إلا نفسك " قال : فانصرفنا عنه ثم قال : " ها إن ذين ها إن ذين - مرتين - لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة " فقال له كعب بن الخدرية   - أحد بني بكر بن كلاب   - : من هم يا رسول الله ؟ قال : " بنو المنتفق  بنو المنتفق  بنو المنتفق  ، أهل ذلك منهم " ، قال : فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت : يا رسول الله هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم ؟ فقال رجل من عرض قريش   : والله إن أباك المنتفق لفي النار ، قال : فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رءوس الناس فهممت أن أقول : وأبوك يا رسول الله ؟ ثم إذا الأخرى أجمل ، فقلت : يا رسول الله وأهلك ؟ قال : " وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري ، أو قرشي من مشرك قل : أرسلني إليك محمد  ، فأبشرك بما يسوءك ، تجر على وجهك وبطنك في النار " . 
قال : قلت يا رسول الله وما فعل بهم ذلك ، وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه ، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيا فمن عصى نبيه كان من الضالين ، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين  ) . 
هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة ، لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني  ، رواه عنه  إبراهيم بن حمزة الزبيري  ، وهما من كبار علماء المدينة  ، ثقتان محتج بهما في الصحيح ، احتج بهما إمام أهل الحديث  محمد بن إسماعيل البخاري  ، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته .  [ ص: 592 ] فممن رواه الإمام ابن الإمام  أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل  في مسند أبيه وفي كتاب " السنة " ، وقال : كتب إلي  إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري   : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك ، فحدث به عني . 
ومنهم الحافظ الجليل  أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل  في كتاب " السنة " له . 
ومنهم الحافظ  أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال  في كتاب " المعرفة " . 
ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه  أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني  في كثير من كتبه . 
ومنهم الحافظ  أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني  في كتاب " السنة " . 
ومنهم الحافظ ابن الحافظ  أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده  ، حافظ أصبهان   . 
ومنهم الحافظ  أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه   . 
ومنهم حافظ عصره  أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني  ، وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم . 
وقال ابن منده  روى هذا الحديث  محمد بن إسحاق الصنعاني  ،  وعبد الله بن أحمد بن حنبل  وغيرهما ، وقد رواه بالعراق  بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة منهم  أبو زرعة الرازي  ، وأبو حاتم  ،  وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل  ، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده ، بل رووه على سبيل القبول والتسليم ، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة هذا كلام أبي عبد الله بن منده   . 
 [ ص: 593 ] وقوله : تهضب أي تمطر . والأصواء : القبور . والشربة - بفتح الراء - : الحوض الذي يجتمع فيه الماء وبالسكون والياء الحنظلة يريد أن الماء قد كثر فمن حيث شئت تشرب . وعلى رواية السكون والياء يكون قد شبه الأرض بخضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة واستوائها . 
وقوله : حس ، كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه على غفلة ما يحرقه أو يؤلمه ، قال  الأصمعي   : وهي مثل أوه . وقوله يقول ربك عز وجل " أو أنه " . قال  ابن قتيبة  فيه قولان : أحدهما : أن يكون " أنه " بمعنى " نعم " . والآخر أن يكون الخبر محذوفا كأنه قال أنتم كذلك أو أنه على ما يقول . والطوف الغائط . 
وفي الحديث ( لا يصل أحدكم وهو يدافع الطوف والبول  ) والجسر الصراط . وقوله " فيقول ربك . مهيم " : أي ( ما شأنك وما أمرك وفيم كنت  ) . وقوله " يشرف عليكم أزلين " : الأزل - بسكون الزاي - الشدة والأزل على وزن كتف هو الذي قد أصابه الأزل واشتد به حتى كاد يقنط . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					