فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم بالقسامة فيمن لم يعرف قاتله  
ثبت في " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم حكم بها بين الأنصار واليهود  ، وقال لحويصة  ومحيصة  وعبد الرحمن   : ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟  ) وقال  [ ص: 10 ]  البخاري   : " وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " ، فقالوا : أمر لم نشهده ولم نره ، فقال : " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين " ، فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده  . 
وفي لفظ : ( ويقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته إليه  ) ، واختلف لفظ الأحاديث الصحيحة في محل الدية ، ففي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، وفي بعضها وداه من إبل الصدقة . 
وفي " سنن أبي داود   " : أنه صلى الله عليه وسلم ألقى ديته على اليهود  ، لأنه وجد بينهم  . 
وفي " مصنف عبد الرزاق   " : أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بيهود ، فأبوا أن يحلفوا ، فرد القسامة على الأنصار ، فأبوا أن يحلفوا فجعل عقله على يهود  . 
وفي " سنن  النسائي   " : فجعل عقله على اليهود  ، وأعانهم ببعضها ، وقد تضمنت هذه الحكومة أمورا : 
منها : الحكم بالقسامة  ، وأنها من دين الله وشرعه . 
 [ ص: 11 ] ومنها : القتل بها لقوله : ( فيدفع برمته إليه  ) ، وقوله في لفظ آخر ( وتستحقون دم صاحبكم  ) فظاهر القرآن والسنة القتل بأيمان الزوج الملاعن وأيمان الأولياء في القسامة  ، وهو مذهب أهل المدينة   . وأما أهل العراق  ، فلا يقتلون في واحد منهما ، وأحمد  يقتل في القسامة دون اللعان ،  والشافعي  عكسه . 
ومنها : أنه يبدأ بأيمان المدعين في القسامة بخلاف غيرها من الدعاوى . 
ومنها : أن أهل الذمة إذا منعوا حقا عليهم  ، انتقض عهدهم لقوله صلى الله عليه وسلم : إما أن تدوه ، وإما أن تأذنوا بحرب  . 
ومنها : أن المدعى عليه إذا بعد عن مجلس الحكم ، كتب إليه ، ولم يشخصه . 
ومنها : جواز العمل والحكم بكتاب القاضي وإن لم يشهد عليه . 
ومنها : القضاء على الغائب . 
ومنها : أنه لا يكتفى في القسامة بأقل من خمسين إذا وجدوا . 
ومنها : الحكم على أهل الذمة بحكم الإسلام  ، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكم بينهم وبين المسلمين . 
ومنها : - وهو الذي أشكل على كثير من الناس - إعطاؤه الدية من إبل الصدقة  ، وقد ظن بعض الناس أن ذلك من سهم الغارمين ، وهذا لا يصح ، فإن غارم أهل الذمة لا يعطى من الزكاة ، وظن بعضهم أن ذلك مما فضل من الصدقة عن أهلها ، فللإمام أن يصرفه في المصالح ، وهذا أقرب من الأول ، وأقرب منه : أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، واقترض الدية من إبل الصدقة ، ويدل عليه : " فوداه من عنده " وأقرب من هذا كله أن يقال : لما تحملها النبي صلى الله عليه وسلم لإصلاح ذات البين بين الطائفتين ، كان حكمها حكم القضاء على الغارم لما غرمه لإصلاح ذات البين ، ولعل هذا مراد من قال : إنه قضاها من سهم الغارمين ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها  [ ص: 12 ] لنفسه شيئا ، فإن الصدقة لا تحل له ، ولكن جرى إعطاء الدية منها مجرى إعطاء الغارم منها لإصلاح ذات البين . والله أعلم . 
فإن قيل : فكيف تصنعون بقوله " فجعل عقله على اليهود   " ؟ فيقال : هذا مجمل لم يحفظ راويه كيفية جعله عليهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما كتب إليهم أن يدوا القتيل ، أو يأذنوا بحرب ، كان هذا كالإلزام لهم بالدية ، ولكن الذي حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا ، وحلفوا على ذلك ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه من عنده ، حفظوا زيادة على ذلك ، فهم أولى بالتقديم . 
فإن قيل : فكيف تصنعون برواية  النسائي   : " أنه قسمها على اليهود  ، وأعانهم ببعضها  " ؟ قيل : هذا ليس بمحفوظ قطعا ، فإن الدية لا تلزم المدعى عليهم بمجرد دعوى أولياء القتيل ، بل لا بد من إقرار أو بينة ، أو أيمان المدعين ، ولم يوجد هنا شيء من ذلك ، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم أيمان القسامة على المدعين ، فأبوا أن يحلفوا ، فكيف يلزم اليهود  بالدية بمجرد الدعوى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					