ومن تمام هذا : أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح   مسلم  وغيره من حديث  أبي ذر   وأبي هريرة  رضي الله عنهما ، وجاء من حديث غيرهما : أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار  ، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض ؛ بأن " الأسود شيطان " ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الشيطان تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي ،   [ ص: 32 ] فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد الحديث ، فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته ، فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة ، فلذلك أخذ  أحمد  بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار ؛ لأنه عارض هذا الحديث حديث   عائشة  لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهي في قبلته ، وحديث  ابن عباس  رضي الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى ، مع أن المتوجه أن الجميع يقطع ، وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلي ولم يكن متحدثا ، وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث . 
واختلف المتقدمون من أصحاب  أحمد  في الشيطان الجني إذا علم بمروره : هل يقطع الصلاة ؟  والأوجه : أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظاهر قوله : يقطع صلاتي ؛ لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك ، قوية في الدليل نصا وقياسا . ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث ، ولكن مدرك علمها أثرا هو لأهل الحديث . ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط . 
ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة   [ ص: 33 ] لكان وصما على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا . 
ولقد كان  أحمد  رحمه الله يعجب ممن يدع حديث " الوضوء من لحوم الإبل " مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ، ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ، ولذلك أعرض عنها الشيخان :  البخاري   ومسلم  ، وإن كان  أحمد  على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر  ، لكن غرضه : أن الوضوء من لحوم الإبل  أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر . 
وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه ، فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ، ولهذا كان كل نجس محرم الأكل ، وليس كل محرم الأكل نجسا . 
وكان  أحمد  يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة ، مع أنه أبعد عن القياس والأثر ، والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس ، وقد صح عن الصحابة ما يخالفه . 
والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم ، وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه ، أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقطع الصلاة شيء ، أو بما روي في ذلك عن الصحابة . 
 [ ص: 34 ] وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة ، أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة ، خصوصا مذهب أحمد . 
فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					